وهبي قاطيشه

"كوابيس" الشرق وسحر الديموقراطية

25 كانون الثاني 2021

02 : 00

بينما تنعم معظم مناطق العالم بالسلام، بحثاً عن التطوُّر والإزدهار، لتأمين حياة حرَّة وكريمة لشعوبها؛ تنفرد منطقة الشرق الأوسط باختراع الأزمات، وممارسة العنف وقمع الحريَّات واستدراج الحروب... بعكس المسار الطبيعي للتاريخ والتطوُّر في هذا القرن، وذلك حُبَّاً بالسيطرة والتسلُّط والتوسُّع... ما يجعلها اليوم، المنطقة شبه الوحيدة في العالم، التي تختزن الفوضى وعدم الإستقرار والحروب المتنقلّة غبّ الطلب. لماذا؟ هل هي لعنة الجغرافيا؟ وهل من حلول لها؟

يقول "ألكسندر مارانش": "الجغرافيا هي العنصر الأهمّ في الدبلوماسية والاستراتيجية لأنّها الأكثر ثباتاً". وقد تكون جغرافية هذا الشرق هي مصدر ويلاته. فهذا الشرق كان، منذ آلاف السنين، باب العبور في الإتّجاهين بين أمبراطوريات الشرق والغرب التاريخية، عندما كانت هذه الأمبراطوريات تتسابق للوصول والإستيلاء على بابه (الساحل الشرقي للمتوسط). كما أنّ هذا الشرق كان "الكوريدور" الإلزامي للعبور في الإتّجاهين بين أمبراطوريات الشمال والجنوب؛ بين وادي النيل وشبه الجزيرة العربية من جهة، وبرّ الأناضول من جهة أخرى. وبدلاً من الإستفادة اليوم من هذا الموقع الجغرافي المُمَيَّز، الذي انصهرت فيه حضارات عديدة، كان يمكن أن تمنحه غنى طبيعياً ودوراً فريداً؛ تحوَّل بإرادة بعض قادة شعوبه، خصوصاً أخيراً، ساحة صراع للإيجار بين القوى الإقليمية والدولية الباحثة عن التمدُّد والنفوذ. أولى المعارك الحربية في التاريخ سُجِّلت فوق أرضه عام 1274 ق.م. في قرية قادش على بحيرة حمص بمحاذاة حدود لبنان (أصبح اسمها اليوم "تل النبي مندو")؛ ولا تزال أرضه، بعد 3300 عام من ذلك التاريخ، خزّاناً للحروب وساحة لتصفية الحسابات، لأنّ بعض مسؤوليه لا يزالون يتوسّلون العنف وسيلة للحكم، تحت شعارات "قومية"، "وطنية" و"إجتماعية"، برّاقة في الشكل وفارغة في المضمون، يستغلّونها كتغطية لقمع شعوبهم والتسلُّط عليها وإفقارها؛ ضاربين بعرض الجهل كلّ إنجازات الحرية والديموقراطية التي عاشتها شعوب العصور القديمة، والتي أوصلت العالم إلى هذه النهضة والتطوُّر التي يعيشها العالم اليوم.

أغلب مسؤولي هذا الشرق المشرذم طبَّقوا على شعوبهم نظريّة "فرِّق تَسُد"، فزرعوا الخوف بين مكوّنات هذه الشعوب للتسلُّط على الجميع؛ بينما أمبراطوريات الأمس، من أثينا إلى روما... وصولاً إلى التحرُّر من سطوة الدين على الدولة في حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت القارة الأوروبية، عندما فقدت أوروبا الوسطى 30% من سكانهــا، في الإقتتــال المسيحي المذهبي باسم "الأرثوذكسية الدينية"؛ لتنفرد الدولة وحدها في إدارة الشعوب بعد أن فقدت الكنيسة سطوتها على الدولة. فتآلفت الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، وكان عصر النهضة، الذي تعيش الإنسانية نتاجه اليوم؛ بينما لا نزال نحن في هذا الشرق، نعيش حالات الأقليات العرقية والدينية والمذهبية؛ ونؤجّجها للتسلّط والهيمنة، ونحجب عن شعوبنا التطوُّر والإزدهار.

قبل خمسين عاماً ونيّف، توجَّه داعية حقوق الإنسان في الولايات المتّحدة الأميركية "مارتن لوثر كينغ"، إلى الشعب الأميركي بالقول: "تعالوا نتعلّم العيش كإخوة بدل أن نموت معاً كأغبياء"؛ وانتصرت معه "العيش كإخوة" بوصول أول رئيس أميركي، من أصول أفريقية، إلى حكم "روما" الجديدة من واشنطن. بينما لا يزال بعض هذا الشرق الأوسط، يعيش حالات شاذة من الأقليات المذهبية والعرقية... بعضها يحلِّلُ القتل أو يمارس الذبح أو يغتال الآخر... سبيلاً لفرض الهيمنة والتسلُّط وتسويق أوهام مستحيلة التحقيق.

بعضٌ من هذه السياسات العنفية والقمعية لا تزال مستخدمة من بعض قادة الشرق الأوسط؛ الذين يتوهّمون أنّها الوسيلة الأنجع لتثبيت الحكم أو للتوسّع خارج الحدود بحثاً عن دور إقليمي يتجاوز حدود طاقاتهم الطبيعية، وحضورهم الإقتصادي... خلافاً لما يشهده العصر الحالي من تطورات. في التاريخ القديم، كان السيف مصدر التوسُّع (الفرس، اليونانيون، الرومان...) لبناء الأمبراطوريات حدودها تقف عند أقدام آخر جندي من جيشها؛ أما اليوم فلم يعد لـ"السيف" أو الأسلحة التي ورثته أو العنف والإرهاب دورٌ في الحكم أو التوسُّع. وحده العقل البشري، غير المقيَّد بجغرافيا أو بدينٍ أو بمذهب أو بعرق....قادرٌ على بناء الأمبراطوريات."أمبراطوريات" العقل تملأ اليوم شوارع المعمورة بسياراتها، والفضاء بطائراتها، ومطابخ البيوت بتجهيزاتها؛ تعيش مع كل إنسان بيومياته، وتفرض على شعوب الأرض نمطاً معيناً من الحياة. إنها "أمبراطورية" العقل التي أسقطت عنف "السيوف"، واستبدلت الإنغلاق على الذات والعنصرية بالإنفتاح على الآخر. إنها "أمبراطوريات" اليابان وألمانيا وفنلندا وكوريا الجنوبية... وليس الإتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية (النووية)...

في رواندا (أفريقيا)، حصد العنف بين القبيلتين الأكبر حوالى 800 ألف قتيل على الهوية خلال مئة يوم (بين 7 نيسان و17 تموز عام 1994)؛ إنها المجزرة الأكبر والأسرع في تاريخ الإنسانية. انتهت المجزرة بالمصالحة ورفض العنف والإحتكام للديموقراطية؛ أصبحت بعدها رواندا من أكثر البلدان استقراراً في أفريقيا.

سياسات العنف والتسلُّط فشلت كلّها عبر التاريخ القديم والمعاصر في تقديم الرفاهية والتطوّر لشعوبها، وحدها الحرّية هي التي قادت الإنسانية إلى الإزدهار والتقدّم؛ ويكفي أن نلقي نظرة على عالم اليوم لنتأكّد من أنّ الأنظمة الديموقراطية توفِّر لشعوبها الحرّية والعيش بكرامة، بالرغم أحياناً من ندرة الوسائل؛ بينما أنظمة التسلّط والإستبداد لا تقدّم لشعوبها سوى الرغيف المغمَّس بالذلّ، مهما توفّر لها من غنى وطاقات. وقد وصفها تشرشل بالقول: "عيب الرأسمالية (الديموقراطية) هو التوزيع غير العادل للثروة، وفضيلة الإشتراكية (القمع) هو توزيع البؤس بالتساوي".

المراهنة على عدالة البؤس خطيئة، فالخلاص من التخلُّف ومواكبة التطوّر يبدأ بتخلّي القادة عن القمع والتسلّط والتوسُّع وسياسة التخويف من الآخر والبدء ببناء الدولة: دولة الحرّية والعدالة والمؤسسات المنبثقة من إرادة الشعب. الحرّية، التي تُعلِّمنا أن نعيش كإخوة بدل أن نموت معاً كأغبياء. إنه حلم شعوب الشرق الأوسط للخلاص من الكوابيس. إنه سحرُ الديموقراطية.


MISS 3