نوال نصر

حاربوا اسرائيل بأظافركم لكن بالعقل والعلم والتماسك

مليحة موسى الصدر: كلّنا مقصّرون والمتابعة ليست في مستوى القامة!

31 آب 2019

02 : 28

هو رجلٌ استثنائي، ونحن في عالمٍ كُلّ استثناء جميل فيه يُنحر بسكينٍ مسننة! الإمام موسى الصدر "غُيّب" جسدياً في لحظةٍ زمنية معينة و"يُغيّب" في لحظات تلت وتلي. هو رجلٌ بحجمِ وطنٍ. وكلاهما، الرجل والوطن، في فم الذئب الذي تآمر ويتآمر على كل الصفات التي تؤسس لدولة! لقاءٌ مع مليحة موسى الصدر، إبنة الإمام - المغيّب، فيه تحيّة ووجع واشتياق وإيمان...

تمنحُ مليحة، بوجهها البيضاوي وبعينيها الملونتين، الراحة والسكون حتى في قلبِ الضجيج. هادئة هي الإبنة ُ الصغرى للإمام موسى الصدر. كانت في سن السابعة يوم اختفى لكنها تحفظ من تعاليمه الكثير وتعرف عنه، لكثرة ما سمعت من المعارف، الكثير وتتذكر مشاهد لم تغب عن بالِها لحظة. تتذكره وتُخبر ثم لا تلبث أن تنظر في الفراغ مرددة: كأنه أسطورة.

هي تديرُ مركز التدخل المبكر "أسيل" التابع لمؤسسات الإمام الصدر، وتتعاملُ مع الأطفال برفقٍ بالغ. ونجحت، عبر "أسيل"، في دمج 900 طفل في ثمانية أعوام. نهجُ "أسيل" هو أيضاً على نهج الإمام.

الطفلة ُ التي ودعها والدها قبل 41 عاماً باتت اليوم أماً لولدين، موسى ورباب. والسؤال البديهي: هل يُشبه الشاب موسى، إبن العشرين ربيعاً، الإمام موسى بشيء أو بأشياء؟ تهزُ إبنة موسى ووالدة موسى: لا، لا أحد يُشبه الإمام.

لبنان بلد نهائي

فلنتركها تتذكر: كان بيتنا مفتوحاً. أتذكر هذا جيداً. وكانت التحديات أيضاً موجودة. وكلّ يوم نتذكره. نتذكره في كلِ مرة نُصادف فيها شيئا مفرحاً أو أمراً سيئاً أو حزيناً. ونتذكره وأولادُنا يكبرون ويطرحون الأسئلة ويُحكى عن حوار الأديان والثقافات والحضارة والطوائف والمقاومة والتحرير. ونتذكره في كلِ مرة نقرأ فيها أول بندٍ في اتفاق الطائف: "لبنان بلد نهائي لجميع أبنائه". هذه كانت جملته.

الكلّ يتحدثون عن الإمام موسى الصدر ويُسهبون لكن، ماذا كان ليتغيّر في المعادلة الكبرى لو لم "يُغيّب"؟ وماذا لو عاد؟ تجيب مليحة: لُقب الإمام بصفةِ الإمامة لأنه كان مقداماً وينظر الى الأمام ويرى ما لا يراه آخرون. لو لم يكن هكذا لبقي "السيّد". كان يعرف الإمام الى أين نحن ذاهبون ويعرف كيف يرسم الأفق. واستطاع أن يعبر الى النسيج اللبناني الصعب. دخل الإمام الى كل القلوب والعقول في لبنان. وهذا ما يعكسه قول الكثيرين: ليت الإمام هنا. وهو كان يدعو قبيل الإنتخابات، قبل يوم واحد من الإنتخابات: الى تضحيات وتنازلات. أين تسمعين مثل هذه العبارة اليوم؟ هو كان يبتعد عن القصص الصغيرة التي تؤسس لتشنجات وينظر الى الصورة الأوسع والأكثر عمقاً، لذلك حين تقرأون مسيرته تلاحظون أن لقاءاته كانت غالباً مثمرة. هو عمل للبنان مدة 19 عاماً ورأينا ثمار ما فعل. فكيف لو بقي بيننا. فكروا بهذا فقط تعرفوا ماذا خسرنا بتغييبه.

مليحة هي الإبنة الصغرى، سبقها ثلاثة أولاد هم: صدر الدين وحميد ثم حوراء. الصبيّان ولدا في إيران وولدت الفتاتان في لبنان. أوّل مرة أتى الإمام الى الجنوب العام 1955 ثم عاد الى طهران ليعود نهائيا العام 1959. كان كثير العمل لكنه لم يكن يجعل أطفاله يشعرون أنه غير موجود. كان يجلس الى جانبهم حين يكتب وكان يأخذهم معه، إذا سنحت الظروف، الى حيث يسافر. كان يشرح لهم الأمور ويُحلل المسائل ويتكلم في مختلف المواضيع لكنه أبى دائماً أن يعظ الآخر. وتعطي مليحة مثلاً: فلنأخذ قصة الخمس التي تُمنح ويفترض ألا يعرف بها أحد. وهو شرحها على الشكل التالي: البرتقالة التي تتدلى من شجرة لم تأتِ من فراغ. إنها معلقة بغصن والغصن في شجرة والشجرة في التراب والتراب يأخذ الشمس وهناك مزارع ومياه وسماد. والإنسان كما البرتقالة لا يصل الى مكان ما بلا عطاء وجهد و"خمس". هكذا كان يُفسّر الأشياء والقيَم ويشرحها بمعناها الإجتماعي حتى يعطي معنى للشخص والمجتمع والأشياء.

تغييبه ليس عن عبث

متى استوعبت مليحة أن الإمام ليس الى جانبها؟

(مستغربة) ليس موجوداً! لا لم أشعر بهذا ولا مرة. كلما مرّ الوقت وكبرنا ندرك أكثر كم نحتاج الى هذا الإنسان، ليس لأنه والدي بل لأنه قائد رؤيوي وإنساني يرينا هدف الأديان الحقيقي.

تغييب الإمام لم يكن عن عبث. الإمام موسى الصدر كان يؤمن بضرورة أن يكون المجتمع ملوناً ومتنوعاً كي يحصل الجريان. وكلما زاد التنوع اشتدت أواصر الوحدة. هو ردد هذا وفي المقابل كان هناك من يقول إن طريق فلسطين تمرّ من جونيه ويسأل إحداهن: كيف يمكن أن تكوني عربية ومسيحية! الإمام أوضح الكثير من المسارات التي كانت "ضائعة". والرئيس الجزائري هواري بومدين قال بعد لقائه الإمام: وضّحت لنا الكثير مما كنا نجهله. الرئيس جمال عبد الناصر قال للإمام أيضا: وضّحت لنا ما كنا نجهله.

الإمام نقل الى العالم أن هدف اللبنانيين الأبعد هو نفسه لكن السلوك مختلف. واللبنانيون تشاجروا لأنهم يفتقرون الى لغة الحوار. لهذا كان يحث الآخرين على التركيز على الهدف الأبعد. كان يقول: جميعهم يريدون لبنان قوياً وجميلاً وبلا فساد لكن لكلٍ أسلوبه.

نراقب موسى ورباب، ولدا مليحة، وهما يساعدان أطفال "أسيل". مليحة هي وحدها من سمت موسى. زوجة الإمام موسى الصدر إيرانية وتحمل إسم بروين وهو إسمٌ فارسي معناه تخوم السحر أو "الثريا". تُخبر مليحة هذا وهي تردّد "تقبرني ماما" تضيف: هي مصدر الأمان والصبر والعطاء والتضحية. عانت كثيراً ولا أعرف كيف استطاعت أن تتحمل كل ما تحملته.

لم يكن يُقدم الإمام على خطوة في حياته، كبيرة أو صغيرة، قبل أن يتصل بوالدته ويطلب رضاها. وهو خدم والده وبات أشبه بممرض له. ينام ويقوم تحت قدميه ويعطيه الدواء بنفسه. وهو تعامل في ذاك الوقت مع أخواته على نقيض ما كان يتعاطى كثيرون مع الفتيات في بيوت العلماء. وأصرّ أن يدرسنَ ويسافرنَ. شجعهنّ كثيراً. وأعطاهن المسؤولية وطلب منهن ان يساهمن في فتح الطريق أمام بنات جنسهن. وتتذكر مليحة: طلبوا من الإمام تدريس مادة الدين الإسلامي في مدرسة العاملية لطلاب المرحلة المتوسطة الذين كانوا "يهشّلون" كل أساتذة الدين. وكان الإمام بصفة سيّد. دخل الى الصفّ وقال لهم: إطرحوا كل أسئلتكم. وأمسك ورقة وقلماً وبدأ في تدوين الأسئلة والملاحظات. وبعد أن انتهوا من سيول الأسئلة قال لهم: أسئلتكم ستُشكّل منهاج هذا العام.

إحترم الكبار والصغار

إحترم الإمام المغيّب العقول وشجع الشباب على الرفض شرط أن يسمعوا ويفهموا. وكان يطير فرحاً حين يجلس بين الأطفال. وكم من الرجال اليوم يقولون: إلتقينا الإمام موسى الصدر ذات يوم.

خسارة الطائفة الشيعية كبيرة بغياب الإمام، لكن مليحة ترفض أن يُقال هذه خسارة شيعية فالإمام للجميع. الكبار يكونون للإنسانية جمعاء. وهناك أشخاص يوجدون في هذا العالم لقياس حال الإنسان بهم كما للذهب قياس. وكما علي بن أبي طالب.

لكن، كم ابتعدت الطائفة ولبنان عن تعاليم الإمام؟ تجيب مليحة موسى الصدر: ثمة منارات جميلة في بلادِنا لكن العالم لم يتركنا بحالِنا ولا لزوم لنجلد أنفسنا.

الإمام موسى الصدر كان ذا حضور مميز أينما حلّ. ويوم توفي البابا يوحنا 23 كان سيّد موسى لا الإمام موسى في صور، وذهب للمشاركة في العزاء وطلب أن يُلقي كلمة. فكان له ما طلب. وفاجأ الجميع في ما قاله. تشيح مليحة بنظرها مجدداً الى الفضاء مرددة: أشعر بنفسي أحياناً أتكلم عن اسطورة.

تحتفظُ مليحة بآخر رسالة تلقتها من الإمام وفي طياتها كثير من القلق. وتشرح: الإمام معروف بكتابة الرسائل، وخطه جميل جميل، وهو كتب فيها: أخبركم بأنني عائد. طمئنوا أم صدر الدين وسأتصل بكم قريباً لأخبركم متى أعود بالتحديد.

عمر الإمام اليوم 91. وهو كان بصحة ممتازة يوم اختفى. ولم يكن يشكو سوى من هبوط بسيط في الضغط وألم في يده بسبب إصرار الناس على السلام بشدة عليه. ولا شيء يقول أن العمر خانه ومات، فشقيقه السيد علي الذي يكبره بخمس سنوات توفي هذه السنة.

إبتسامة لا تغيب

تحتفظ مليحة بصورة للإمام، رسمتها صديقتها باسكال مسعود. وانتشرت الصورة بعدما شاركت بها الرسامة في معرض للإمام موسى الصدر. وتقول مليحة: ليس هناك صورة للإمام لا يبتسم فيها. هو آمن دائما بقوة الإبتسامة على حلّ كثير من الأمور.

هو شكّل حركة المحرومين أفواج المقاومة "أمل". وتقول ابنته: رغب دائماً بتجنب استخدام السلاح وردّد: معركتنا مع إسرائيل معركة حضارية طويلة الأمد. وفي مكانٍ آخر قال: واجهوا العدو بأظافركم وأسنانكم لكن السلاح وحده لا يفيد إذا لم يقترن بالفكر والعلم والتماسك واللافساد. وطالب بإنماء الجنوب حتى لا يقف جنوبي عند تخوم فلسطين ويقول: هناك أجمل.

يبقى أن يعرف القاصي والداني أن الإمام موسى الصدر لم يملك أي منزل في حضوره. وأول منزل خاص للعائلة سكنته زوجة الإمام في 1996. من هذه النقطة بالذات يبدأ الإختلاف.

هنيبال القذافي. أتتذكرونه؟ هو الابن الرابع للرئيس الليبي معمر القذافي. وهو قال، يوم جرى توقيفه في لبنان: أملك معلومات عن الإمام موسى الصدر ورفيقيه. إنتهت المعلومات عند هذا الحدّ على الرغم من مرور خمسة أعوام إلا مئة يوم. فهل لأحدٍ ما أن يُخبر من ينتظرون الإمام بفارغِ الصبر منذ 41 عاماً ما جديد المعلومات؟ هل لأحدٍ أن يُخبر عائلة الإمام، الصغيرة والأكبر، ماذا قدّم هنيبال القذافي من معلومات وهو كان في سن الثانية يوم فُقِد الإمام في ليبيا؟

محاميان توكلا الدفاع عن القذافي أولهما بشرى الخليل وثانيهما أكرم عازوري. الثاني تنحى والأولى عزلت بعدما قالت: الإمام مات. ورفع نجل الإمام دعوى ضدها.

- ماذا في جديد القضية؟ ماذا في جديد المعلومات في الحادي والثلاثين من آب سنة 2019؟

تجيب مليحة موسى الصدر: طلبنا من الدولة إتخاذ الإجراءات المناسبة.

- مرّت أربعة أعوام و9 أشهر ولم تفعل. ألم تراجعوا؟

هو اعترف بوجود معلومات لكنه لم يُدلِ بها.

- هل سألتم عن ظروف توقيفه مثلا؟

نحن، كل ما فعلناه من قِبل العائلة وضعناه في عهدة المسؤولين. ونحن نؤمن بالقضاء اللبناني الذي يفترض أن يمسي بالمسار الصحيح. نحن لا نفتش عن أب غاب بل عن رجلٍ يخص الدولة اللبنانية وكل المجتمع. والدولة يفترض أن تتابع الموضوع لا العائلة.

- لكن، من ينتظرون الإمام بفارغ الصبر يستغربون هذه البرودة في التعامل مع رجل قال إنه يملك معلومات؟

نحن، كما قلتُ لك، وضعنا كل شيء بين أيدي الدولة لأننا لا نريد أن نكسر القوانين التي طالما تمسك بها الإمام. إذا تدخلنا أكثر نكون ضيعناه هو وضيعنا النهج الفكري الذي أرساه.

- هل بهتت قضية تغييب الإمام؟

المتابعة ليست في مستوى القامة ولو كان الأمر عكس هذا لكان الإمام بيننا. كلنا مقصرون في التعامل مع هذا الإنسان الذي اختفى من أجل لبنان.

- كثيرون قصروا لكن من كان قادراً فعلياً وعملياً في ذاك الوقت على التدخل الإيجابي في الموضوع؟

كانت أيام حرب. ونحن، كعائلة، لم نكن قادرين أن نتصرف بطريقة مختلفة ونعتمد أسلوباً آخر. كنا نفكر دائماً إذا كان الإمام سيكون راضياً عن الطريقة التي نتبعها. لم يكن ليرضى أن «نولع» البلد من أجله. الإمام رسم خطاً لنا لا يمكننا أن نفعل عكسه من أجلِ إعادته. الغاية لا تبرر الوسيلة في نهج الإمام.

هنيبال القذافي... الرجاء ممن يعرف شيئا!

جال أحد رفاق الإمام موسى الصدر في كل المشهد اللبناني وخرج بتعليق: «لو عاد الإمام الى لبنان لطأطأ الرأس خجلاً ممن لا همّ لهم إلا جمع الفضة والذهب. وكان ليصرخ فيهم: هذا بيت المحرومين. ولكان استعان بكلام السيد المسيح: هذا بيتي، بيت الله، وقد جعلتموه بيتاً للصوص».

هذا بيتي...


MISS 3