ساندي الحايك

تحفظ تاريخ المدينة وتورّثه من جيل إلى جيل

شوارع طرابلس... أسماء حافلة بالقصص

31 آب 2019

02 : 28


عام 1963 عُقد اجتماع للمهندسين العرب في القاهرة بغية تأسيس اتحاد يضم النقابات والجمعيات والهيئات الهندسية العربية فى كيان واحد، شارك فيه 10 مهندسين طرابلسيين. في حينه، كان عدد المهندسين من أبناء المدينة قليلاً. عند عودتهم إلى بيروت سقطت الطائرة إثر عطل طارئ فيها وتحطمت بالكامل. مات المهندسون العشرة. سقط الخبر على المدينة كالصاعقة وألمّ الحزن بأهلها. نتيجة لذلك وتخليداً لذكراهم، أطلق الطرابلسيون أسماء المهندسين على عددٍ من الشوارع، منها شارع المهندس حازم الجسر وشارع المهندس مظهر ميقاتي. تدفع هذه الحادثة إلى طرح السؤال: من يكتب التاريخ؟ الغالبون أو المغلوبون أم المواطنون العاديون؟ يدور السؤال في رأسك وأنت تجوب شوارع طرابلس. هذه المدينة عصيّة على الملل. كل شيء فيها ينبض ويحمل معه دائماً ما هو جديد رغم المرور المتكرر بالأحياء نفسها. تكتب الشوارع التاريخ وتحفظه وتورّثه من جيل إلى جيل. تدوّنه على حيطانها وفي عماراتها وأزقتها وأرصفتها. تحتضن الماضي وأسراره بأسمائها الغريبة وقصصها الأكثر غرابة. في طرابلس لكل شيء دلالة تعود إلى عهود خلت.

شارع عزمي، وهو الشارع الذي يقع عند مدخل المدينة الشمالي، ويصلها بالميناء عبر خطٍ مستقيم، تبدو تسميته القصة الأكثر شهرةً في المدينة. يُنسب اسمه إلى عزمي بك، والي بيروت عام 1915، وكان قبل ذلك متصرفَ لواء طرابلس. خلال زيارة عزمي بك إلى إحدى تلال طرابلس، حيث قهوة التل العليا حالياً، تطلع نحو الأفق، فرأى البحر على وسعه، عندها أمر بشق طريق مستقيم يصل المدينة مباشرةً بالبحر. فكان له ما أراد وعُرف الشارع باسمه، وهو الآن أحد أبرز شوارع التسوق في المدينة.

على خطٍ مقابل له نرى شارع المئتين، أحد أهم الشوارع السكنية في المدينة، يمتد أيضاً نحو البحر من دون تعرجات، وكان الهدف منه ربط المدينة القديمة بمرفأ الميناء. ووفق الرواية التاريخية، قامت عائشة البشناتية في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، التي سكنت في طرابلس بعد مغادرتها قضاء زغرتا، بتجنيد عدد كبير من الشباب لقتال الصليبيين. خاضت الكثير من المعارك ونصبت الكمائن ورسمت الخطط وحاكت المكائد. وفي إحدى المرات نصبت بمساعدة جيشها كميناً محكّماً للجنود الصليبيين أثناء مغادرتهم قلعة برج السباع صعوداً نحو المدينة القديمة، فقضى على الأثر 200 جندياً، من هنا اكتسب الشارع تسميته التي لا تزال مستخدمة إلى اليوم.

معركة تحرير طرابلس من الإفرنج تحضر أيضاً في تسمية شارع الخراب في الميناء. فقد أدت واحدة من المعارك الضارية التي وقعت فيه، بين المماليك والصليبيين، إلى تدمير المكان بالكامل وتحويله إلى خراب، فاكتسب على الأثر تسميته التي لا تزال معتمدة.

«الأسامي هي هي»قديماً كانت تُطلق أسماء الشوارع بحسب المحال التي تميّزها، كشارع سوق العطارين المتخصص ببيع العطارة وشارع سوق النحاسين المتخصص بصنع وبيع النحاسيات وغيرها. رغم سطوة الزمن والأحداث في طرابلس، لا يزال العطارون في أماكنهم. تفوح من بين أصابع أيديهم روائح العود والميرمية والزعتر، ويشهد شيب رؤسهم على الكثير من حكايات الأزمنة الغابرة، وتروي تشققات سقوف محالهم عن حوادث الكرّ والفرّ في شوارعهم، والتي لم تتوقف من عهد المماليك وصولاً إلى عهد الدولة الحديثة.

باب التبانة عُرفت سابقاً بباب الذهب. كانت تضم أضخم الأسواق في تاريخ المدينة وتدر ذهباً على التجّار فيه. الزمن كان كفيلاً بتبدّل اسمها، وذلك بحسب البعض جاء نتيجة ازدهار تجارة التبن مقابل تراجع تجارات أخرى. منطقة الدباغة اكتسبت اسمها بسبب شهرة أهلها بدباغة الجلود وبيعها.

شوارع أخرى تكرّست أسماؤها نتيجة تردادها على ألسنة العامة، مثل شارع زقاق الرمانة، المتفرّع من سوق النحاسين. كان سابقاً مساحة تكسوها أشجار الرمان وينتشر بينها عدد من البيوت. يُحكي أن إحدى الأشجار نبتت في زاوية ضيقة منه وتحوّلت إلى ملتقى سرّي للعشاق، يحتمون فيها من أعين الفضوليين خلال لقاءاتهم الخاطفة. منطقة المرجة أيضاً كانت محلاً للقاءات الحميمة والعائلية، وهي مساحة من البساتين والمزروعات ومن هنا اكتسبت اسمها. أما محلّة السويقة، فهي منطقة انتشرت فيها السواقي المتفرّعة من نهر أبو علي. النهر فرض أسماءه الخاصة على المناطق المحيطة به، فنجد محلّة الجسر العتيق ومحلّة الطواحين ومحلّة بين الجسرين.

نكبة أبو علي... المستمرة

نهر أبو علي كان مصدر الحياة في طرابلس قديماً قبل بناء جداريّ الدعم على جانبيه، وقد جاء ذلك على حساب أكثر من ألفي مبنى ومحل أثري من الحقبة المملوكية. تبدل المشهد في محيط النهر بشكل جذري، ولاسيما عقب نكبة فيضانه في العام 1955. اختفت البيوت المحاذية له ونزح السكان إلى تلّة على بعد مسافات منه باتت تُعرف باسم «محلّة المنكوبين». وهي - للمفارقة - إسم على مُسمى، منكوبة كغالبية مناطق طرابلس نتيجة تحوّل الدولة من رعاية مواطنيها إلى الإحسان إليهم. تجد في المحلّة أكثر العائلات فقراً، وهم إما طرابلسيون أو من أبناء الضنية وعكار الذين نزحوا إلى المدينة.

أبي سمراء لها قصة أخرى. كانت المنطقة قديماً تلة تُغطيها بساتين الزيتون الممتدة على مساحة شاسعة تعود ملكيتها لأثرياء المدينة. كان هؤلاء يقصدونها صيفاً للاستمتاع بمناخها، ويولون مهمة الاهتمام بمزروعاتها لعدد من الفلاحين، كان من بينهم حارس مفتول العضلات، أسمر البشرة وحسن الظهر، لُقب بـ «أبي سمرا»، فكان كل من يقصد تلك المنطقة يُردد عبارة «طالع عند أبو سمرا».

«ابنة كرامي تزوجت ابن الشهال»جاءت تلك الأسماء كمحصلة طبيعية لحياة الطرابلسيين اليومية. لم تأتِ من خارج المكان ولا ظهرت لصقاً على الجدران أو بإيعاز من طرف ما. هي ببساطة تحمل دلالات حياتهم العادية منذ آلاف السنين ما جعلها راسخة وعصية عن النسيان. بعضها ارتبط بـ «الوجاهة» التي كانت تُمثلها العائلات الثرية والأعلى مقاماً في المدينة، والتي كان يقصدها الأعيان وذوي الشأن. فمثلاً سُميت طلعة الرفاعية نسبةً لآل الرفاعي، وشارع بيت الكيّال نسبة لآل الكيّال، وشارع السندروسي نسبة لآل السندروسي. ولا تزال أسماء العائلات الوازنة في المدينة تُستخدم للدلالة على حدثٍ ما، ففي جلسات النساء الصباحية بدلاً من القول فلان تزوج فلانة، يُقال «ابنة بيت كرامي تزوجت ابن بيت الشهال»، وأن «ابن الضناوي خطب بنتاً من بيت الأدهمي».

ولم تقتصر تسميات الشوارع على أسماء الشخصيات أو العائلات، بل تعددت لتشمل مراكز وصروحاً تعليمية ودينية وعلمية لشهرتها أو اعترافاً بفضلها، وعليه ظهر شارع روضة الفيحاء بناء على طلب مجلس الأمناء في ثانوية روضة الفيحاء، وتم تغيير اسم شارع الثقافة إلى النادي الثقافي، وتغيير اسم الشارع حيث مقر جمعية التوجيه الإسلامي إلى شارع التوجيه.

قرارات البلدية واعتراض السكان

مع تطور فكرة الدولة سعت بلدية طرابلس إلى تنظيم أسماء الشوارع، وظهر أول القرارات المتعلقة بتسمية الشوارع في 14 تموز 1951، حمل الرقم 192، إثر اغتيال رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح، بحسب ما جاء في كتاب د. عاطف عطية «تحولات الزمن الأخير». قضى القرار بتسمية الشارع الممتد من شارع عبد الحميد كرامي إلى الميناء باسمه (يُعرف الشارع باسم شارع الجميّزات نسبةً إلى أشجار الجميز التي كانت تغزوه). ثم تلاه قرار تسمية أحد الشوارع باسم الرئيس بشارة الخوري. كان القراران فاتحة البحث في إعادة النظر بأسماء الشوارع وذلك في عهد رئيس البلدية نور الدين الرفاعي.

تشكّلت لجنة لهذا الغرض وكانت أولى العقبات التي اصطدمت بها وجود أسماء متداولة تاريخياً لغالبية الشوارع والساحات والأزقة في المدينة. على الرغم من ذلك، قدمت اللجنة مشروعها وقامت بإطلاق أسماء رسمية على عدد من الشوارع والإبقاء على الأسماء المعروفة في شوارع أخرى. بعد فترة أيقن المعنيون أن التجربة باءت بالفشل، إذ بقيت الأسماء القديمة راسخة ومستخدمة، في حين أن الأسماء الجديدة حبراً على ورق. فشارع العجم ذائع الصيت في المدينة حل مكانه اسم شارع محمد الحسيني، لا يعرفه أحد من أبناء طرابلس بهذا الاسم إلا نادراً. كذلك طريق طلعة الرفاعية استُبدلت باسم شارع الشيخ رشيد رضا غير المعروف أيضاً. واعترض أبناء الطائفة الأرثوذكسية على تغيير اسم شارع الكنائس واستبداله باسم شارع بشير الشهابي، واستطاعوا إعادة الاسم القديم واعتماده في السجلات الرسمية. شارع يعقوب اللبان في الميناء بات يُعرف بشارع مينو، وساحة عبد الحميد كرامي باتت تُعرف باسم ساحة النور. وشارع طريق سوريا القديمة يُعرف باسم «خنّاق حمارو». يطرح هذا التضارب إشكالية غياب النظام البريدي المرتبط بالتنظيم المدني، فأي زائرٍ غريب عن المدينة يصعب عليه الوصول.


MISS 3