أردوغان... الإسلامي الذي غيّر وجه الحكم في تركيا!

15 : 30

أردوغان هو أبرز سياسي مثير للحيرة في آخر 96 سنة من تاريخ تركيا. قد يكون سريع الغضب، لكنه صبور للغاية في الوقت نفسه، إذ احتاج إلى 16 سنة كي يرسم ما يسمّيه "تركيا الجديدة"، في إشارةٍ إلى البلد الذي يتّكل على نفسه اقتصادياً وتسود فيه معارضة مهمّشة وصحافة خاضعة.

وُلِد أردوغان في العام 1954، وهو ابن قبطان عبّارة. كان يجني مصروفه الشخصي عبر بيع الكعك التركي حين لا يدرس في المدرسة الدينية.

كان يبلغ 15 عاماً في العام 1969، حين دعا الإسلامي نجم الدين أربكان تركيا إلى قطع علاقاتها مع "السوق الأوروبية المشتركة" (الكيان الذي مهّد لنشوء الاتحاد الأوروبي) والاصطفاف مع القادة الإسلاميين في بنغلادش وباكستان وبقية بلدان العالم الإسلامي. ثم انضم إلى "حزب الخلاص الوطني" التابع لأربكان لدعم المجاهدين في أفغانستان في معركتهم ضد السوفيات والثورة الإسلامية بقيادة روح الله الخميني في إيران. أدانت هذه الجماعات "العقلية الغربية الصليبية" مقابل غياب المراجع الإسلامية في المجال العام، ما يعني أن الحكومة العلمانية لم تكن تستحق الاحترام طالما لا تحترم الإسلام.

في العام 1985، عيّن مجلس مدينة اسطنبول أردوغان كلاعب في فريق كرة القدم التابع له، لكنه اضطر للاستقالة بعدما منع الفريق إطلاق اللحية الإسلامية. بعد وقت قصير، دعاه الإسلاميون للعمل بدوام كامل في حزب أربكان الذي حمل لاحقاً اسم "حزب الرفاه" بعد حظر تسميات سابقة، فجمع هناك أموالاً من الأعضاء لدفع أجوره. راح يلقي خطابات ضد "النظام العالمي الشرير الجديد"، ويحتجّ على حرب الخليج، ويدافع عن قضية الجماعات الإسلامية المتمردة في الحرب الأهلية الجزائرية.

في العام 1994، انتُخِب أردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول، فجعل وسائل النقل العامة مجانية خلال الأعياد الإسلامية، ومنع شرب الكحول في المقرات التابعة للبلدية، ورفع قيود العمل المفروضة على النساء المحجبات. وحين طلب منه أحد المراسلين أن يشرح سبب نجاحه، قال: "أنا إمام اسطنبول"! في العام 1998، أصدرت أعلى محكمة في تركيا قراراً بِحلّ "حزب الرفاه". وبعد خطاب ناري ألقاه أردوغان في إحدى المسيرات، اتُّهِم بالتحريض على الكره وحُكِم عليه بالسجن لعشرة أشهر. وحين خرج من السجن، كان جاهزاً لشق طريقه نحو أعلى مراتب السلطة.

كان "حزب العدالة والتنمية" الذي أسسه في العام 2001 الأداة المناسبة لتحقيق طموحاته. لقد أنشأه مع سياسيَين مخضرمَين آخرَين من "حزب الرفاه"، وهما عبدالله غول وبولنت أرينج، وطرح من خلاله فكرة جديدة: التكامل الأوروبي وحماية الحرية الدينية اللذان يضمنهما الاتحاد الأوروبي يناسبان المتديّنين، ويصبّ نشر الديمقراطية في مصلحة الأتراك المحافظين.

فاز "حزب العدالة والتنمية" بالانتخابات التركية في العام 2002 وحصد 34% من الأصوات، فيما تلقى الحزب الذي احتل المركز الثاني 19%. وفي العام 2004، تعهد أردوغان بإضعاف هيمنة الجيش على السياسة وتخفيض مكانة رئيس الأركان العامة التركي إلى رتبة موظف حكومي. بفضل هذه الوعود، فاز بدعم الليبراليين. لكن لم تصبح الديموقراطية بديلة عن الوصاية العسكرية في تركيا، بل مهّد الوضع لنشوء إرث "حزب العدالة والتنمية" بعد العام 2010. كان عهد أردوغان مثيراً للانقسام واستبدادياً. فابتعد عن الليبراليين وبدأ يتخذ الخطوات اللازمة لترسيخ نظام رئاسي.

رفض أردوغان بعد سجنه المناشدات التي تدعوه كي يصبح النسخة التركية من نيلسون مانديلا، فطرح نفسه كرجل صارم يشبه شخصية فظّة كانت تجول شوارع اسطنبول في الحقبة العثمانية. من خلال التماهي مع تلك الشخصية تحديداً، شدّد على بداياته المتواضعة ورسّخ قاعدته الشعبية المتديّنة، أي الإسلاميين الذين حُرِموا من حق التصويت وما كانوا يدعمونه بسبب خططه الإسلامية المزعومة بل نظراً إلى القيم المحافظة التي دافع عنها في بداية مسيرته.

لكن غيّر أردوغان الصورة التي يظهر بها مع مرور الوقت، فتحوّل من إسلامي معارض للغرب إلى ديمقراطي محافظ. ولتحقيق رؤيته بإنشاء حركة إسلامية تتماشى مع النظام العالمي، انضم "حزب العدالة والتنمية" إلى "تحالف المحافظين والإصلاحيين في أوروبا"، وهو حزب سياسي أوروبي واسع يهدف إلى إصلاح الاتحاد الأوروبي بدل رفضه. لكن كان أردوغان يفتقر إلى الكوادر اللازمة لملء البيروقراطية في الدولة. لذا أعاد إحياء التقليد العثماني المرتبط بالحكم غير المباشر، فكلّف لاعبين مختلفين في السلطة بتولي المناصب الحكومية (القضاء، الشرطة، الجيش). لكن أدت هذه الخطوة إلى خروج الوضع عن السيطرة. لاحظ أردوغان أن سلطته اللامركزية معرّضة للسقوط. فقد استقال جنرالات قوميون علمانيون احتجاجاً على استيلاء جماعة غولن على الإدارة المدنية، وسقط من لم يقدّم استقالته بسبب قضايا كبرى في المحاكم خلال العامَين 2008 و2010. حتى أن بعضهم حُكِم عليه بالسجن المؤبد. نتيجةً لذلك، استاء الأتراك القوميون، وخسر "حزب العدالة والتنمية" أصوات الناخبين في الأناضول. لاسترجاع السيطرة على الوضع، قطع أردوغان علاقاته مع أتباع غولن، فأوقف دعمه لمؤسساتهم التعليمية وأخرج أعضاءهم من النظام البيروقراطي.

في السياسة الخارجية، كلّف أردوغان أحمد داود أوغلو باستلام زمام الأمور، فعيّنه وزيراً للخارجية في العام 2009. في عهد هذا الأخير، أصبحت تركيا وريثة الخلافة العثمانية واحتاجت إلى التحول من "دولة تابعة للغرب" إلى "دولة محورية". استفادت تركيا من موقعها الجغرافي، على تقاطع بين البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط وأوروبا، وحرصت على قيادة البلدان الإسلامية.

استمتع أردوغان بتحقيق تلك الطموحات الكبرى. ومع نشوء "الربيع العربي"، وضعت تركيا أنظارها على سوريا وتمنّت أن يتغير النظام هناك بفضل "الجيش السوري الحر"، وعلى مصر حيث راهنت بالكامل على جماعة "الإخوان المسلمين". هكذا أعاد أردوغان فرض نفسه كزعيم إسلامي عالمي. فقال بعد الفوز برئاسة الحكومة للمرة الثالثة في العام 2011: "صدّقوني، فازت سراييفو اليوم بقدر اسطنبول، وبيروت بقدر إزمير، ودمشق بقدر أنقرة، ورام الله ونابلس والضفة الغربية والقدس بقدر ديار بكر".

لكن تحطمت تلك الأحلام كلها بسبب حدثَين بارزَين. في مصر، رفض محمد مرسي وقادة آخرون في "الإخوان المسلمين" دعوة أردوغان إلى اعتبار تركيا العلمانية "ديمقراطية نموذجية". وبعد سقوط مرسي، بدت آمال أردوغان في نشوء نسخة علمانية من "الإخوان المسلمين" في أنحاء المنطقة غير واقعية. في سوريا، أنشأ الأكراد منطقة معزولة في شمالي البلاد، ما دفع الأكراد في تركيا إلى الانسحاب من عملية السلام المتواصلة مع الحكومة المركزية، علماً أنهم كانوا يتوقون منذ وقت طويل إلى تشكيل دولة منفصلة. أما الحدث الثاني، فتعلّق بوقوع انتفاضة محلية. في العام 2013، نظّم ملايين اليساريين ومناصري البيئة مسيرة في حديقة جيزي في اسطنبول وساحات أخرى في أنحاء تركيا. هكذا خسر أردوغان دعم مناصري غولن والأكراد والليبراليين ولجأ إلى القوميين الأتراك للبقاء في السلطة. فأبدى إعجابه بأتاتورك وسياساته، واعتبر أن منتقديه يحاولون استعطاف الناس لتحقيق مصالحهم السياسية، وزعم أن الغرب يحاصر تركيا.

في العام 2014، أصبح داود أوغلو رئيس الحكومة، لكن استاء أردوغان بعد فترة قصيرة من علاقاته الودّية مع قادة دول أوروبية أخرى وظنّ أنه بات يتحدى سلطته. في العام 2016، أجبره أردوغان على الاستقالة واستبدله بنائب غير نافذ. وبعد أقل من شهرين على رحيل داود أوغلو، أطلقت الكوادر المستاءة من مناصري حركة غولن في الجيش انقلاباً فاشلاً قُتِل خلاله 250 شخصاً.

كان الانقلاب الفاشل كفيلاً بإعطاء أردوغان حججاً إضافية لترسيخ مركزية السلطة، فعلّق "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان"، واعتقل آلاف الموظفين الحكوميين، وأغلق أكثر من 100 وسيلة إعلامية، وألغى جوازات سفر 50 ألف تركي يُشتبَه بارتباطهم بجماعة غولن لمنعهم من مغادرة البلد. شارك الأتراك في العام 2017 في استفتاء حول تبني نظام رئاسي، وبلغت نسبة تأييد أردوغان في الانتخابات الرئاسية 53% في العام 2018.

استياء متزايد

كان عاكف بيكي كبير مستشاري أردوغان والمتحدث باسمه بين العامَين 2005 و2009، لكنه ينتقد رب عمله السابق اليوم.

يشكّل الحلفاء السابقون المستاؤون، من أمثال بيكي، مصدر إزعاج لأردوغان. في الفترة الأخيرة، رفع اثنان من ثلاثة أعضاء تأسيسيين في "حزب العدالة والتنمية" الصوت ضد سياسة أردوغان الاستبدادية: استنكر أرينج بقوة النبرة المثيرة للانقسام في الحزب، واقترب غول من الترشّح عن معسكر المعارضة في انتخابات العام 2018. أما داود أوغلو، فنشر من جهته بياناً يعارض فيه النظام الرئاسي على فيسبوك.

على صعيد آخر، يطرح الوضع الاقتصادي المقلق في تركيا مشكلة أكثر خطورة. فقد خسرت الليرة التركية 28% من قيمتها، وزادت أسعار المواد الغذائية هذه السنة بنسبة 30%.

مع ذلك، لا يزال "الجدار المنيع" الذي بناه أردوغان ثابتاً، إذ يضمّ "حزب العدالة والتنمية" حتى الآن 11 مليون عضو.

في مقابلة تلفزيونية، اعتبر أردوغان السنوات التي أمضاها كإسلامي في "حزب الرفاه" وكرئيس بلدية اسطنبول "فترة تدريبية". أما الحقبة التي كان فيها رئيس وزراء إصلاحي، فكانت بمثابة "توظيف لمعارفه". لكنّ السنوات التي أمضاها في سدة الرئاسة هي التي تثبت حنكته السياسية من وجهة نظره. يبلغ أردوغان اليوم 65 عاماً وهو يحكم بلده من دون فصل السلطات. إنه وضع حتمي برأيه بعدما خانه حلفاؤه السابقون. لكن على أرض الواقع، تُسجَّل إخفاقات منهجية في الديمقراطية التركية: ضعف المؤسسات، غياب التدقيق بعمل الصحافة، تحولات ثقافية متسارعة بوتيرة مخيفة على مر القرن الماضي.

رغم كل شيء، يحافظ المجتمع المدني في تركيا على قوته، إذ يبلغ عدد المستخدمين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي 52 مليون شخص. في هذا السياق، كتب الروائي أورهان باموك: "حين يصبح أي بلد غنياً ومعقداً أكثر من اللزوم، قد يعتبر زعيمه نفسه نافذاً جداً، لكن يشعر الأفراد فيه أيضاً بالقوة". خلال العقد المقبل، يتعلق أكبر تحدي يواجهه أردوغان، في ظل تنامي النزعة الفردية في تركيا وتوسّع الشعبوية الكارهة للإسلام في أوروبا، بإقناع الناخبين بأن مزيج الغضب والصبر في شخصيته لا يزال نموذجاً يُحتذى به، وأن قصة نجاحه تبقى مصدر إلهام للكثيرين، وأن قوته الاستثنائية وحدها قادرة على إيصال تركيا إلى بر الأمان. لا شك في أن أردوغان سيبذل قصارى جهده للنجاح في هذه المهمة الشاقة!


MISS 3