عيسى مخلوف

الجُوع أحد أشكال القتل

30 كانون الثاني 2021

02 : 00

أصبحت بعض الوسائل الإعلاميّة في العالم حين تأتي على ذِكر لبنان تضعه في عداد الدول التي يعاني أهلها الجوع. لكنّ لبنان قسمان: أكثرية متضرّرة من انهيار الوضع السياسي والاقتصادي، وأقلّيّة من المُستفيدين الميسورين، وفي مقدّمهم الطبقة الحاكمة التي هرَّبت ما نهبته إلى الخارج. هذه الطبقة التي ما زالت تحكم بذهنيّة الميليشيات والقبائل البدائيّة، لا تعرف ما الفرق بين حياة لبنان وموته، ولا قيمة عندها للحياة البشريّة على الإطلاق. هناك من يقول إنّ الحلّ ليس في يد الحكّام القابعين في قصورهم. إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فلماذا يقبلون بدور الدُّمى المتحرّكة تتلاعب بخيوطها قوى لا يعنيها لبنان وشعبه بقدر ما تعنيها مصالحها الخاصّة؟ إنّهم مجرّد أدوات لمزيد من الخراب ولجعل البلد يغرق أكثر فأكثر في دوّامة الرمال المتحرّكة، ويصير مهدّداً في وجوده، كما الحال الآن.

شعب الوطن الصغير لا يملك القوّة المادّيّة ولا السلاح الذي يملكه المتربّصون به، لكنّه يملك الوعي إن تضامن وإن أراد ألّا يظلّ لعبة يتلاعب بها اللاعبون. وهو الآن، ومنذ قُرابة نصف قرن، أسير هذه الوضع الذي يدفع ثمنه، في المقام الأوّل، الأبرياء والمؤمنون بالحقوق والعدالة والحرية، وبينهم مئات الألوف من الشابّات والشباب الذين طالبوا بالتغيير واتّهمهم المنصاعون للخارج بالعمالة للخارج.

يتزايد عدد الفقراء اليوم، وما تطلبه منهم السلطة هو أن ينزووا في منازلهم ويموتوا بصمت، وإلاّ فهي تتعامل معهم كخَوَنة وأعداء للوطن. ولا تعرف هذه السلطة أنّ للجوع طَعْماً أيضاً. طَعم الغضب الذي يكسر الأبواب التي وراءها يختبئ اللصوص المتخمون. أولئك الذين سرقوا كلّ شيء، حتّى الأمل بعيون الأطفال، في بلاد جعلوها تقتل أبناءها حتّى قبل أن يولدوا.

يعملون على بثّ الذُّعر في أجهزة سلطتهم حيناً، وحيناً آخر بالتجييش الطائفيّ. لكن، هل يخاف الجائع الذي يتضوّر أبناؤه أمام عينيه جوعاً؟ هل يخاف من يبلغ أقصى حدود الخوف؟ الجوع ليس البرد والنعاس، وليس الحيرة والقلق. إنه شعور مختلف يجد تعبيره المُطلَق في إذلال الإنسان وإنكاره. يقول الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير: "آه! الجوع! الجوع! هذه الكلمة، أو، بالأحرى، هذا الشيء الذي أحدث ثورات وسيُحـدث غيرها الكثير!".

أيّ إنسانيّة لاإنسانيّة هذه التي تقبل بألّا يتمكّن المرء من أن يأكل حين يجوع ومن أن يشرب حين يعطش؟ كم تبدو واهية الأحزاب والإيديولوجيّات والمعتقدات والأديان أمام هذه الحقيقة، وهي إحدى الحقائق المروّعة التي رافقت البشريّة كظلّها عبر التاريخ. ولم تكن أسبابها اقتصاديّة دائماً بقدر ما كانت، في الغالب، سياسيّة، وصورة لسلطة القهر والجشع التي لا حدود لها، والتي تقسم البشر قسمين: الفقراء بالخبز مقابل الفقراء بالإنسانيّة، أولئك الذين يتلاعبون بمصائر الناس ولا رحمة في قلوبهم. لذلك فالجوع أحد أشكال القتل، وهو الموت البطيء المُذلّ، كاستغلال الإنسان للإنسان واستعباده والحَطّ من قدره.

لا معنى للصَّدَقات البائسة التي يرميها المؤمنون في الأيدي الممدودة على أبواب الكنائس والجوامع. لا معنى للشفقة، هذا الشعور الذي ينطوي على استصغار من يعاني العوز والفاقة. ثمّة حاجة إلى شيء آخر مختلف تماماً. إلى سياسيين لا يسطون على مقدّرات بلدهم كما فعل أمراء الطوائف، وإلى سياسة اقتصادية إنمائيّة لا تغيب عنها فكرة العدالة الاجتماعيّة، بخلاف النظام السائد غير المستدام اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً، والقائم على الفساد والرشوة والمحسوبيّة. نعم، من حقّ كلّ إنسان أن يأكل في المكان الذي يوجد فيه، وإذا كان الأمر عكس ذلك فهذا يعني أنّ الأرض التي وُلد فيها أرضٌ مريضة، مخيفة وغير صالحة للسكن، خصوصاً عندما تصبح قيمة المال أهمّ من قيمة البشر، وبه تُشترى الذمم والضمائر، ويباع كلّ شيء بما في ذلك أجمل الأحلام.

الجميع يعرف أنّ أعداء لبنان كُثُر، وأنه بلد مستباح برّاً وبحراً وجوّاً، لكن العدوّ الأكثر شراسة على الإطلاق، والأكثر جبناً وحقارة، هو الذي يدفع إلى اليأس التامّ ورحيل وجه لبنان الحقيقي، الوجه المضيء المجسّد في جيله الصاعد، ليبقى البلد غنيمةً بين أيادٍ آثمة تفعل به ما تشاء وما يُطلَب منها أن تفعل.


MISS 3