جورج العاقوري

ترتيلة في زواريب السياسة والتسخيف

13 شباط 2021

02 : 00

مرات كثيرة يحاول مسيحيون متعصّبون "تفصيل" المسيح على قياسهم ومحدوديتهم وتفريغ المسيحية من جوهرها وهو المحبة، فيتحولون إلى فرّيسيين مفترسين يتمسكون بالقشور وينسون الجوهر. يغلّبون الطقوس على العقيدة والأحكام المسبقة على حقيقة النوايا. يزايدون على المسيح الذي قال "أحبوا اعداءكم وباركوا لاعنيكم" و"من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر".


وما جرى من قبل بعضهم عقب ترنيم المرسل اللبناني الماروني الأب جان عقيقي "أنا الأم الحزينة" في خلال وداع الشهيد لقمان سليم بناءً على تمني والدته المسيحية الباحثة سلمى مرشاق، أن هناك من تخطّى، بردة فعله، مسألة التحفّظ على إستخدام هذه الترتيلة كونها لا تُنشد إلا يوم الجمعة العظيمة، وفي وجدان المسيحيين تجسّد لحظات ألم مريم العذراء على وحيدها عند أقدام الصليب. وشكل الجيش الالكتروني للتيار الوطني الحر وبعض وجوهه المعروفة رأس حربة في الحملة، حيث بلغ بهم الأمر حد إتهام الأب عقيقي بالتجديف والطلب بطرده من السلك الكهنوتي فوراً، وقال شربل خليل في تغريدات له: "ليعتذر الأب عقيقي عمّا ارتكبه في "حفلة تشييع" لقمان سليم ويصلي للسيدة العذراء أن تسامحه، وتنتهي القضية... وإلا وَجُبت محاسبته لأنه أهان جوهر الإيمان المسيحي. يجب عزل الكاهن المجدّف في حديقة منزل لقمان سليم وطرده من السلك الكهنوتي فوراً، وإلا فالمسؤولية عن هذا التجديف يتحمّلها رؤساء الكنيسة المارونية مجتمعين".

استفزت "القشة"جمهور التيار ونسيوا الجسر في عينهم وهم الذين اقدم بعضهم مراراً على تأليه العماد عون منذ العام 1988 وجملة "إنت الله، إنت الملكوت، إنت الروح القدس"، التي قالها احدهم لعون وهو يزهو من دون ردعه حاضرة في الاذهان وتكررت عبر السنين، وآخرها منذ أشهر خلال التظاهرة العونية امام قصر بعبدا، حيث اعتبرت إحدى السيدات ان "عون عن يمين المسيح وباسيل عن يساره". كما أن الهجوم عبر وسائل التواصل الإجتماعي لم يقتصر على الأب عقيقي بل طال بسهامه رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبدالساتر، إذ إستغلوا هذا الإلتباس بشأن الترنيمة في محاولة للهجوم عليه لأن مواقفه المنتقدة للسياسيين في لبنان لا تحيّد العهد ورئيسه ميشال عون، فعدد من مسؤولي الصف الاول في التيار ينتقدون عبد الساتر في العلن.

لقد ظن بعضهم أن عقيقي تابع لمطرانية بيروت التي تقع ضمن إطارها بلدة حارة حريك، فسأله التوضيح وبلغ حدّ مطالبته بالإعتذار. تزامن ذلك، مع إتصالات هاتفية إنهمرت على المطرانية في السياق نفسه، ما إستدعى إعلانها في بيان انه "بعد ورود إتصالات عدة تستنكر قيام أحد الكهنة بترنيم طلبة "أنا الأم الحزينة" في مراسم تشييع الناشط والمفكر لقمان سليم، يهم الدائرة أن توضح أن الكاهن المذكور لا ينتمي الى الأبرشية، كما أن صاحب السيادة المطران بولس عبد الساتر لم يفوضه بتمثيله في مراسم التشييع، لذلك اقتضى التوضيح".

توضيح إضافي

إلا أن بعض وسائل الاعلام إعتبرت أن هذا البيان هو إنتقاد لمشاركة عقيقي ولقيامه بالترنيم. مصادر في مطرانية بيروت أكدت لـنا أن الغاية من بيان التوضيح أن الأب عقيقي لا يخضع لمطران بيروت ولا يمثل المطران عبد الساتر كما إدعى بعضهم، وأي استيضاح يجب أن يوجّه الى المسؤولين عنه لا الى عبد الساتر. كما أكد المصدر أن لا ضغوطات سياسية مورست لصدور البيان لأن عبد الساتر لا يخضع إلا لربه ولا يعمل إلا وفق ضميره وقناعاته. كذلك أشارت الى أنها ليست ضد الصلاة المشتركة التي جرت ولا ضد مشاركة رجال دين مسيحيين في وداع سليم.

من جهته، أوضح مصدر كنسي لـ "نداء الوطن" أن لا شكوك في حسن نوايا الاب جان عقيقي وبإلتزامه تعليم أمه الكنيسة، وهو كان يواسي أم الفقيد عبر تلبية رغبتها بترنيم "أنا الام الحزينة"، ولو أدرك أن خطوته ستثير هذا اللغط لربما إستعاض عنها بترنيمة أخرى.

كما أشار المصدر الكنسي الى أن "أنا الام الحزينة" هي ترتيلة شعبيّة لا أساس لاهوتيّاً لها، لذلك هي غير ليتورجيّة إنها تتكلّم عن معاناة أمّ ثكلى في وداع إبنها المعذَّب حتى الموت أمامها. أضاف: "الترتيلة لا تتكلّم عن المسيح بالمباشر، ولا عن لاهوته، فقط عن الأم وكيفيّة عزائها. لكن للأسف فالأغلبيّة إستعملت هذا الموضوع للمزايدة السياسيّة وللضغط على سيادة مطران بيروت بعد عظته المدوّية في عيد مار مارون".

تابع: " بعض المؤمنين إنتقد تلاوة هذه الترتيلة لأنه لم يعتد على سماعها بغير وقتها ومكانها. فبحسب العادات والتقاليد، لا تستخدم هذه الترنيمة الا في الجمعة العظيمة ولكن لا شيء لاهوتياً يمنع ذلك".

وتوجّه المصدر الكنسي إليهم بالقول: "بالرغم من إنشادها بنظركم بغير وقتها ومكانها، إلاّ أنها يجب أن لا تؤثِّر عليكم ولا على إيمانكم، لأن إيماننا هو يسوع المسيح المصلوب والميت القائم من بين الأموات، ولا نفهم هذا الإيمان إلاّ إذا عرفنا أن نتشارك معه آلآمنا ويجب ألا نخاف أن نراه من خلال آلآمنا ومشاكلنا وضعفنا وسلامنا وفرحنا. لذلك ليس هناك من خطأ في تلاوة أيّ ترتيلة وأيّ صلاة في أيّ مناسبة، لأنها تساعدنا أن نرى الله من خلال الحالة التي نعيشها".

للأسف في لبنان كل الامور تسيّس، بين إغتيال لقمان سليم وأبعاده وبين نقمة بعضهم على عظات ومواقف المطران عبد الساتر الوطنية منذ عيد مار مارون العام الماضي التي لا تهاب السياسيين ولا تساوم على الحقيقة ووجع الناس وبين محدودية تمييز بعضهم بين المس بالعقائد وبين الخروج عن التقاليد الذي لا يتناول جوهر المسيحية، جعل البعض من "الحبة قبة" ويصلح قول السيد المسيح لهم "مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد"... الإنتقاد للتصويب مسموح أما سوء النية والإنتقاد للإدانة فقط فهو التجديف بذاته لا بل هو حربة في صميم جوهر المسيح وهو المحبة.


MISS 3