د. هناء عبد الخالق

الياس ديب الفنان المُشبع بالأفكار والرؤى الفلسفية

17 شباط 2021

02 : 00

لا أزال في ذهول الصمت الذي انتابني عند سماع خبر رحيلك الباريسي، خبر يشبه صقيع باريس يوم 13 شباط 2021.

لا شيء سوى الريح وذرات من هذا الصقيع أصابت القلب والوجدان ونحن على مفترق خطير من التحديات...

لن أكتب لأرثيك وأنت المُحب لما أكتب، بل سأكتب لأناديك وأعــرف أنك ستُصغي...

لن أكتب لأرثيك ولا أظنك ترغب بذلك، وأنت المحب للحياة والفن والإنسان وهذا لا يزول...

لن أكتب لأرثيك وأنت القائل كل لغات الأرض لا تكفي لجمــــع رموز القوافي...

قواميس التأويل والتفسير والصلاة لا تعادل بلاغة الرحيل...

لن أكتب لأرثيك لأن صوتي سيكون خافتاً أمام صوتك الصادح على منبر الأونسكو،ـ يوم كنت رئيساً لجمعية الفنانين اللبنانيين- تطالب الدولة بحضور مسؤوليها بتعزيز دور الثقافة والفن والفنانين. كان صوتك صوت حق وكنت سلطاناً.

رحيلك أكبر من الدمع الذي بخّره الأسى بعدم إدراك البعض لأهميتك كباحث وفنان وأكاديمي، وبعدم إنصافك بعد عودتك من باريس لتكون في ربوع وطنك وفي ساحاته الفنية، ناضلت لتطوير مناهج وبرامج الجامعة اللبنانية من فيض معرفتك بغية الانفتاح والتطور والمواكبة العصرية... هذا العمل المتواصل لم يمنحك الاطمئنان الى وضعك الصحي في خريف الأيام، فكنت بين سفر وإقامة لتلقي العلاج في باريس التي احتضنتك كفنان وإنسان. أسفي على وطن لم يعطك حقك، حالك هذه، حال معظم المبدعين ورجال العلم في بلادي.

لقاؤنا الأخير في منزلك كان للحديث عن أعمالك الفنية ورموزها. وعن علاقة اللوحة بجسد الفنان بعد تعرضه للعديد من الإصابات والألم، عن التوحّد والاحتضان بين الجسد واللوحة...

تحدثنا عن صحتك، عن أعمالك، عن حنين خلاّق لأمكنة وحكايات صارت تائهة نحو البعيد، هناك حيث الحياة في جانبيها المفرح، الذي لا يظهر منه إلا شذرات، ومشاهد قاسية أيضاً، تركت ما تركت في دواخلك، فصار هذا ماضياً بل رموزاً ومفاتيح وعي وتجربة فنية مهمة، وكأنها الإرث البصري الباقي من تلك الذاكرة.

وهكذا من دون تردد، غصت في رموز أعمالك الفنية ودونت سطوراً متواضعة، قياساً بتجربة فنان أنهكه التجريب والإبداع، في تقنيات متعددة اخترقت جدار أعماله، لتثبت رؤاه للأشياء وهواجسه وتجليات لحظاته، من خلال رموز تخطُّ باللون والمادة حالاته وأحواله في الزمان والمكان.

لطالما دعوتنا نحن طلابك إلى فتح عيوننا والتنبّه إلى الحياة الخفية للأشياء والأشخاص والأماكن، أن نجادل الواقع ونتحدّى قوانينه وندور حولها، بغية خلق عالم جديد نفرض نحن عليه قوانيننا.

هكذا أنت بشغفك الدائم للفن والكتابة، بتشجيع الطلاب وتحفيزهم. وأنت كنت محرضي الأساسي لدخول المعهد العالي للدكتوراه، وإشرافك على أبحاثي، فعرفتك وحاورتك وعاندتك وتعلمت منك الكثير، وقد خبرتك نموذجاً للتواضع، بأخلاقك وعلمك وعملك الأكاديمي، كنت فناناً مُشبعاً بالأفكار والرؤى الفلسفية والعلمية، والنازع نحو الحرية والتجريب من دون كلل أو ملل.

كنت طائراً حراً يروض طاقة الريح في تحريك مسار الشراع، فتحوّل الحرية إلى صدى يترنم في أعمالك. وانت الباحث بين السطور عن منظر ذهني، عن مسرح واسطورة، عن نغم، عن عطر، عن رجع الصدى... تطوف تواقاً لأماكن رحلت من حيث تأتي الرياح.

تأتي القيمة البحثية في تجاربك من ميلك الدائم إلى الإبحار في الواقع واستخدام معطياته بطرق ملهمة مغوية. فلم تكتف أنت يوماً بالتجوال الحرّ بين حنايا الذاكرة، سواء تلك المخزّنة كصور عن الحياة، كمشاهد سينمائية تسردها عندما أسألك عن شخوصك، فأنت تستطيع أن تراها بوضوح كليّ وكأنك تتنفس حتى هواءها، فتكتفي من خلالها بالاختزال أو الرمز.

كنت فناناً حقيقياً وفق لعبة الفن المثيرة والمفتوحة على كل الاحتمالات، والتي لا تدع فناناً حقيقياً يستمتع بالراحة والهدوء إلا وجذبته إلى عمق القلق الإبداعي، والبحث المضني بإصرار وعناد للذهاب عميقاً، بين سفر وإقامة، بين ماضٍ ومعاصرة، مقترناً بكافة التحولات، لتتركه على مفترق سؤال عظيم: هل البوصلة قادت إلى اكتشاف الطريق؟


MISS 3