د. ميشال الشماعي

مفاتيح قبورنا في جيوبنا

20 شباط 2021

02 : 00

نجح فريق السلطة بعد اختطافه الأكثريّة النيابيّة بفعل الانقلاب على الدّيموقراطيّة الذي بدأه في أيّار 2008، مستخدماً نهج الديموقراطيّة التعطيليّة بالسيطرة على البلد بالكامل. ووضع لبنان في إطار بعيد جدًّا من تاريخه الوجوديّ. فبات البلد معزولاً عن عمقه الحيويّ، ومن دون علاقات خارجيّة. فما هو السبيل لاستعادة دور لبنان الرّسالة؟ وهل ما زال الحلّ بيد اللبنانيّين؟ أم أنّ المسألة باتت في مكان آخر؟

لا يختلف قارئان بأنّ الوضع الذي آلت إليه الأمور في لبنان بات مزرياً جدّاً. والمسؤول الأوّل في هذه الحالة هو هذه الأكثريّة التي اختطفت البلد من قلب الدّيموقراطيّة، وبالاحتيال عليها. فوصل لبنان معها إلى الحضيض، وهبط إلى أسفل درجات الانحطاط التي طالت حتّى الأخلاق. فبات معها التطاول على بكركي مستساغاً، ومبرَّراً، ومعلّلاً من قبل مَن هم مِن المفترض أن يكونوا حرّاساً لها. لكن للأسف هؤلاء هم أنفسهم الذين اعتدوا على البطريرك صفير يكرّرون اعتداءهم على البطريرك الراعي وبكركي بسكوتهم عن حليفهم الذي تطاول عليها. فالسكوت عن الافتراء في هذه الحالة يعدّ جريمة أيضاً.

أقلّ ردّ فعل على التهجم يجب أن يبدأ بانقلاب شامل على مَن تحالف معهم هذا العهد وليس السّكوت عنهم لإرضائهم إمّا بسبب الترهيب، أو بسبب الترغيب. وفي الحالتين الجريمة نفسها. وذلك لأنّ بكركي وحدها لم تخذل اللبنانيّين عند أيّ مفصل بل الذين تطاولوا عليها هم أنفسهم الذين خذلوا اللبنانيّين، تارة بتدمير لبنان وتارة أخرى بإفلاسه ورهنه لإيران. ولن يستعيد لبنان عافيته إلا باستعادة دوره وبعودته إلى الساحة الاقليميّة والدّوليّة ليكون فاعلا كما كان قبل العام 1969. لذلك، لن يستطيع تحقيق هذا الهدف إلا بإعلان صيغة الحياد النّاشط الذي يكون فيه طرفاً مع الحقّ ضدّ الباطل ومع الخير ضدّ الشرّ.

صحيح أنّ البطريرك الراعي قد استنفد الحلول الدّاخليّة بعدما لم تتمّ الاستجابة إلى مبادراته جميعها. لكن الحلّ ما زال ممكناً وهو بيد اللبنانيّين أوّلاً. لا حلّ باستقالة فرديّة من المجلس النيابي. المطلوب الاستقالة الميثاقيّة، ومخطئة هذه السلطة إن ظنّت بأنّها تستطيع تكرار تجربة العام 1992 لتملأ الفراغات. فهكذا استقالة تؤدّي حتمًا إلى إنهاء عمر المجلس النيابي الحالي. لكن نجّنا ربّي من الفذلكات الدّستوريّة التي اعتدنا عليها؛ لكنّها لا تخيفنا لأنّنا أصحاب حقّ، وصاحب الحقّ سلطان.

من هنا، المطلوب المبادرة فوراً لنستطيع إنتاج سلطة جديدة تتجاوب مع طرح بكركي لمشروع حياد لبنان. هذا الحياد الذي يؤمّن السلام الدّاخلي، ويبعد شبح الحرب التي تدور رحاها في الخفاء اليوم. لا كما تحاول هذه السلطة مع مشغّليها التسويق بأنّ الحياد والمؤتمر الدّولي هما مشروع حرب. والتّاريخ القريب يشهد مَن هم حمَلَة مشاريع الحروب من لبنان إلى اليمن، مروراً بالكويت وبخليّة العبدلّي، والبحرين، وسوريا، والعراق وغيرها من الدّول التي تخطّت البعد القارّي لتطال الأميركتين، والقارّة العجوز.

وهذا التهديد الذي صدر من حزب الله بلسان أمينه العام لبكركي هو مرفوض رفضاً قاطعاً. فعوض البحث عن مساحات التلاقي والحوار يرفعون مستوى تهديداتهم ظنّاً منهم بأنّهم قادرون على إخافة بكركي ومَن حولها. فهذا الكلام فارغ المضمون ولا يصرَف إلا في حضارة الموت، حضارتهم، وليس في حضارة الحياة، حضارتنا وحضارة بكركي. ولا تنفع بعد اليوم أيّ استثارة طائفيّة لنغمة حقوق المسيحيّين التي أهدرت في الطائف لتسجيل الخرق الوجداني الذي ما زال يدغدغ عقول الضّعفاء بهدف كسب الرئاسة المقبلة. وحدهم النّاس الأحرار الذين سيصوّتون في صناديق الاقتراع، إن مبكراً وإن في التّوقيت المقرّر مسبَقاً، مَن سيكون الرّئيس المقبل. وحذارِ حرمان النّاس من حقّ تقرير مصيرها، لأنّها لن ترحم أحداً هذه المرة. فالنّسخة الجديدة من 17 تشرين ستكون مختلفة تماماً لأنّها ستضمّ الأحرار كلّهم، بغضّ النّظر عن أيّ بيئة حضاريّة انتموا إليها.

إن أرادت هذه الأكثريّة الخاطفة أن تعالج الموضوع لبنانيّاً، فالمجتمع اللبناني بأطيافه كلّها جاهز. وإن لم تُرِد، وهذا على ما يبدو، واستمرّت بتعنّتها، فعليهم أن يعلموا بأنّنا قادرون على انتزاع مصيرنا ومفاتيح قبورنا في جيوبنا، نسير للشهادة قوافل قوافل ولا نركع، ولا نترك لبناننا، ولا نرهنه لأحد؛ حتّى لو كانت الكرسي في الجنّة. وأيّ مجتمع لن يساعدنا إذا لم نتمسّك برسالة وطننا وكينونة وجودنا فيه. ونحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلة، وقادرون، وأيدينا نار لمن اعتدى، وكلماتنا نور لمن اهتدى. ومن يجرؤ ... فليتقدّم.


MISS 3