د. ميشال الشماعي

السباق إلى التّدويل

6 آذار 2021

02 : 00

سارعت الأكثريّة الخاطِفَة لاستغلال تداعيات السبت الأبيض الذي قاده بطريرك لبنان من بكركي، الحاضنة التاريخية للكيانيّة اللبنانيّة؛ والأكثر من ذلك كلّه، تهافتوا لاستثمار أوجاع النّاس للبحث في تسجيل الخرق الحكومي بعضهم على بعض. وأغفل هؤلاء كلّهم أنّ النّاس خسرت كلّ شيء سوى حرّيّتها، وليست مستعدّة بأن تقايضها حتّى لو على رغيفها أو حبّة دوائها. فهل ستنجح هذه الأكثريّة الخاطِفَة بمكيدتها الجديدة؟ أم ستسبقها بكركي إلى حلبة التّدويل؟

من الواضح أنّ أيّ حكومة تتشكّل لن تريح الطّغمة الحاكمة، ولا سيّما المايسترو "حزب الله" فيها؛ لأنه وبكلّ بساطة، سيكون مقيّداً بطبيعتها التكنوقراطيّة – الاختصاصيّة، ولن يتمكّن من استثمارها سياسيّاً، كما يستثمر في حكومة دياب الحاليّة. فهو من البدء أرادها أداة ليمارس ببراعة مع حليفه البرتقاليّ، الديموقراطيّة التعطيليّة التي يُعتَبران أسيادها منذ العام 2005 وحتّى اليوم، حيث استطاعا أن يعطّلا البلد ما مجموعه سبع سنوات أو أكثر.

في حين أنّ العرف الدّستوري واضح في موضوع تصريف الأعمال، لكن هذه الحكومة تتحرّك بحسب أهواء الأكثريّة التي أوجدتها واختطفتها. وعلى ما يبدو أنّ خارطة الطريق التي يريدها الرئيس الحريري للإنقاذ بدءاً من حكومته لن تلقى أيّ استجابة ممّن يفاوضونه حتّى على أهل بيته. وذلك لأنّ المسألة مرتبطة بالتسويات الكبرى التي يراقبها "حزب الله" بحذر. ولن ينجح، "حزب الله" وحليفه، بتحقيق الخرق المطلوب حكوميّاً ليس إلا لأنّ النّاس ما عادت تصدّقهم، وباتت هي الطّامحة للإنفجار الاجتماعي الكبير. في حين أنّ هذه الأكثريّة تسعى لتجنّبه. لكنّه واقع حتماً، مهما حاولوا تأخيره.

هذا في الموضوع الدّاخلي؛ أمّا في ما يتعلّق بالحراك الدّولي الذي تقوده بكركي، فيبدو أنّ غبطة البطريرك الذي استطاع تسجيل خرق كيانيّ لبنانيّ في ذلك السبت الأبيض، ماضٍ قُدُماً في ما طرحه. وهو في ذلك لا ينطلق من عدم يوتوبيٍّ بل من مبادرة فاتيكانيّة تلقّفها من مواقف البابا اليسوعي، المعروف بتوجّهاته، منذ استلامه السدّة البابويّة. فلقد أعلنها بكلّ صراحة في الثامن من شباط الفائت أثناء استقباله أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين في الفاتيكان متمنياً أن "يشهد لبنان التزاماً سياسيّاً، ووطنيّاً، ودوليّاً، يسهم في تعزيز الاستقرار في بلد يواجه خطر فقدان هويّته الوطنيّة والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية".

ولفت البابا بشدّة إلى "ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويّتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعدّدي متسامح ومتنوّع، يقدّم فيه الحضور المسيحي إسهامه ولا يقتصر على كونه أقليّة فحسب". وأكّد أنّ "إضعاف المكوّن المسيحي في لبنان يهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي". وهذا ما دفع الراعي إلى إطلاق مواقفه بكلّ صراحة ومن دون أيّ كفوف. فالاتّجاه اليوم بات واضحاً، فهو ليس بمنأى عن دعم المجتمع الدّولي.

بمعنى آخر، نجح البطريرك اللبناني بإعادة الاهتمام الدّولي إلى القضيّة اللبنانيّة التي تبدأ بتثبيت كيانيّة وهويّة لبنان بهدف تثبيت الوجود المسيحي الحرّ في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق بالذات، أتت زيارته إلى بلاد الرافدين. وهذه رسالة واضحة بأنّ الشرق لن يكون إطلاقاً من دون الوجود المسيحي الحرّ فيه، ولبنان هو قبلة هذا الوجود. ومخطئ مَن يظنّ أنّه سيستطيع بقوّة سلاحه وانقلابه على الديموقراطيّة، الانقلاب الذي أشار الراعي إليه بوضوح، أن يطبّق مشروعه في إقامة الدّولة بوجه يشبه أيديولوجيّته، ولا يشبه كيانيّتنا اللبنانيّة.

من هنا، يبدو جليّاً أنّ قطار التّدويل قد انطلق قبل 27 شباط، ولن تتمكّن أيّ مفاوضات دوليّة من استثناء لبنان الذي لن يكون إطلاقاً جائزة ترضية، كما يطمح الحزب وحليفه لضمان استمرار نهجهما وحكمهما في لبنان. ولن تفضي التداعيات الاقليميّة إلى أيّ نتيجة؛ إن كانت في اليمن، أو في العراق، أو حتّى في السعوديّة نفسها، بالنسبة إلى الملف الحكومي؛ لأنّ المفتاح في طهران. وهذا ما يوضح السباق إلى التّدويل، كلّ من جهته، بين الأكثريّة الخاطِفَة ومشروع بكركي اليوم: إن في ملفّ التسوية الكبرى، وإن في المؤتمر الدّولي المرتقَب. لكن ما نأمله أن يجدّد الشارع اللبناني وحدته خلف مطالب حياتيّة وسياسيّة واضحة، ستزيد مأزوميّة هذه الأكثريّة بالتأكيد، فتدفعها إلى الحلّ الجزئي الذي إن حصل، لن يقف عائقاً أمام مشروع التّدويل القادم حتماً.


MISS 3