وهبي قاطيشه

وطنٌ وسفينة

12 آذار 2021

02 : 00

الحدود الجغرافية هي العنصر الأساسي الذي يتأسّس عليه وطن، في نطاق يعيش فوقه شعبٌ، بنظامٍ ارتضاه لإدارة مصالحه الحيوية. لبنان اليوم يفتقد هذا العنصر الأساسي لتكوينه كوطن، لأنّ حدوده البريَّة مستباحة شمالاً وشرقاً، لدرجةٍ يمكن تشبيه جغرافيته بالأرض السائبة، خصوصاً إذا ما أُضيف إلى استباحة الحدود، تفكُّكُ الجغرافيا، وفلتان الأمن، وتقاسُمُ عشرات «القبائل» السيطرة على هذه الجغرافيا في الداخل. لبنان اليوم محجورٌ سياسيّاً عن محيطه الأقرب أي العالم العربي، ومعزولٌ عن أصدقائه التقليديين الأبعد في العالم الحرّ، يعيش جفافاً فكرياً ومالياً وإقتصادياً، وقحطاً سياسياً؛ محتجزٌ في سجنٍ لـ»العناية الفائقة»، بانتظار من يُنقذه للعودة إلى الحياة ؛ ولكن بأي شروط ؟ إمّا بترَقُّب «موته» كوطنٍ ذات رسالة حضارية، ومن ثم إعادة بعثه من جديد بجنسية جديدة تتناقض مع هويته ورسالته التاريخية، وإمّا بتفكيكه وتحويله مكوّنات عديدة مجهولة المصير، بسبب روح اللامسؤولية من بعض قيادات هذه المكونات. تساؤلات يطرحها اللبنانيون كل يومٍ، وسط ضياعٍ تاريخي، ولا يجدون جواباً شافياً لها.

إذاً الحدود البريَّة مُلغاة، والحدود البحرية مستباحة في مجزرة 4 آب وباخرة «بور سعيد» في مصر، ويوميَّات مرفأي بيروت وطرابلس، ومطاره الدولي بات مشبوهاً، والفلتان الأمني في الداخل تؤكّده «عراضات» الأسلحة والسرقات اليومية في كثير من المناطق، وبات صراخ اللبنانيين يومياً: «وينيي الدولة»؟

لبنان اليوم هو أشبه بسفينة تصارع الأنواء والأمواج العاتية في بحرٍ من الظلمات؛ بينما ربابنتها مختلفون حول إنقاذها. رُبّانٌ مسكون بالتناقضات يمسك بمقود السيطرة، وربانٌ آخر هجر المدرسة منذ الصفوف الإبتدائية، يحتفظ ببوصلة التوجيه وهو يجهل استخدامها، وثالث طبيب يشرف على إدارة المحرِّك المعطَّل أصلاً، ورابعٌ يقرأ بالغيب يمسك بالأشرعة المهترئة التي مزَّقتها وعطلتها العواصف... وهم لا يتكالمون ولا يتواثقون ولا يتضامنون ... بينما أغار بحارة السفينة على المطبخ فوجدوه فارغاً من المؤن والماء العذب؛ والمؤسف أنه لا يمكن للسفينة أن تنجوَ من الغرق، إن لم يتوافق الربابنة على حدٍّ أدنى من التنسيق؛ وكأنهم ينتظرون تحَطُّمها بفارغ الصبر متوهّمين أنّ أي خشبة خلاص قد تقودهم إلى شاطئ أمان؛ أو أن يعود البحَّارة إلى التوافق على ربابنةٍ جُدُد لإنقاذها من الغرق.

طبعاً، لا يمكن الخروج من هذا الوضع المأسوي إلاّ بالدولة، وسط فقدان هذه الأخيرة الكثير من مقوّماتها. فإذا كان اللبنانيون راغبين فعليَّاً في العيش معاً، داخل دولة واحدة ذات سيادة حقيقية، عليهم التخّلي عن أنانياتهم والإقرار بأنّ هناك مواطنين غيرهم فوق هذه الأرض، ولا يمكن لأي فريق التفرُّد بحكم الآخرين، وعليهم الإحتكام للقوانين والأنظمة التي ترعى شؤون هذه الدولة، وإلاّ فلبنان سائرٌ نحو مصير مجهول.

الخيارُ الوحيدُ لإنقاذ الدولة قبل غرقِ السفينة، هو بالعودة إلى البحَّارة في السفينة، أي إلى الشعب في الدولة، الذي يعيش هذه الأخطار والعواصف ويعاني من المرض والجوع. أُنقِذت السفينة «بونتي» وبحّارتها تاريخياً في فيلم سينمائي من ظلم ربابنتها، عندما ثار البحّارة على الربابنة فأسقطوهم واختاروا قيادة جديدة؛ واللبنانيون مدعوون اليوم للعودة إلى الشعب في انتخابات نيابية لإنتاج سلطة جديدة قادرة على إنقاذ سفينتهم من الغرق؛ وإلاّ فنحن مسرعون نحو المجهول الأخطر؛ والتاريخ لن يرحم المتقاعسين.


MISS 3