د. ميشال الشماعي

أولويّات الناس

13 آذار 2021

02 : 00

نجحت الأكثرية الحاكمة بتبديل أولويّات الناس لتستطيع أن تتحكّم بهم وبمصيرهم، ما أمّن لها ديمومة واستمراراً واستقراراً على الاستمرار في نهجها. وهذا ما وفّر لهذه الأكثريّة جوّاً آمناً مكّنها من الانصراف إلى صفقاتها، ومحاصصاتها، وارتهاناتها للخارج على حساب الوطن. فبعدما كانت أولويّات النّاس في 14 آذار 2005 الحرّية والسيادة والاستقلال، صارت اليوم الرغيف والدواء والأمان. فما هي السبل الآيلة لإعادة ترتيب الأولويّات الوطنية؟ وكيف يمكن للناس أن تحقّق أولويّاتها من دون أن تكون على حساب حياتها؟

لا يختلف اثنان على أنّ الحرّية الشخصية الكيانية هي التي طبعت اللبنانيين على مرّ العصور في هذه البقعة من الشرق، حتّى صارت بمثابة تعريف لهذا الشعب الذي عاش في هذه الأرض. وذلك نتيجة وليس سبباً لقرون من المقاومة التي خاضها اللبنانيون للحفاظ على كينونتهم في هذه الأرض التي صارت لاهوت وجودهم في الناسوت الأرضي. فارتبط وجود لبنان باستمرار الحرّية فيه، وصار نهج الحياة في لبنان مرتبطاً بكيفية تأمين الطبيعة الجبلية الحصن المنيع للبنانيين المقاومين بالفطرة للحفاظ على حرّيتهم، التي صارت جوهر وجودهم.

ولم ينجح أيّ عهد من المماليك إلى العثمانيين إلى الفرنسيين والفلسطينيين والسوريين بتبديل هذه الأولويّة عند اللبنانيين. فحتّى في أعتى الظروف الاجتماعيّة القاسية في سنين المجاعة في زمن الأتراك بقيت الحرّية هي الأساس، ولم يتقدّم الجوع عليها يوماً حيث فضّل اللبنانيون الموت جوعاً وعدم التخلّي عن حرّيتهم. أمّا اليوم مع هذه الأكثرية الخاطِفَة للحكم بفعل سيطرة السلاح والانقلاب على الديموقراطية، فقد نجحت بتحوير أولويّات اللبنانيين. فصار النضال في سبيل العيش الكريم أهمّ من أيّ شيء آخر.

ولعلّ نجاح الثورة اللبنانية في 17 تشرين يكمن في أنّها رفعت هذه المطالب التي هي بمثابة نتائج، وتغاضت عن الأسباب التي أدّت إلى الوصول إليها. من هنا، لا بدّ من إعادة ترتيب لهذه الأولويّات انطلاقاً من القواعد الوجودية وليس أقلّ، وذلك للحدّ من الخيارات القاتلة لوجوديّة الوطن، حيث تعمل هذه السلطة على تفريغه من الأدمغة والأيدي العاملة لتستطيع إحكام قبضتها على ما تبقّى فيه من وجود، بهدف تحويله مجرّد حضور رقمي. من هنا، نستطيع أن نفهم لماذا لم تستطع الثورة بتحرّكاتها أن تكون ككرة الثلج التي تجرف كلّ شيء، بل اقتصرت على تحرّكات شعبية مطلبية اكتفت بالاضاءة على النتائج.

لذلك، من الضروري جدّاً إعادة ترتيب أولويّات اللبنانيين انطلاقاً من الأسباب لا النتائج. وهذا ما سيمكّن الثورة اليوم من أن تتحوّل مدّاً جارفاً يستطيع عندها أن يجرف هذه الطغمة الحاكمة بأسرها. من هنا، ضرورة الربط بين أيّ مطلب إجتماعي الذي هو نتيجة، وبين السبب الذي أنتجه والذي يبدأ بانحلال الدولة وتقويض قدراتها بقوّة السلاح غير الشرعي الموجود اليوم بيد "حزب الله"، وبتوجيه إيراني، تماماً كما كان سلاح منظّمة التحرير الفلسطينية وبالتوجيه البعثي السوري في ما مضى. فالتاريخ يعيد نفسه. وعلى اللبنانيين الاتّعاظ وأخذ الأمثولات التي إن لم توصل إلى النتائج المرجوّة في ثورة 14 آذار 2005 لأنّها انحرفت عن معالجة السبب بقوّة الترغيب أحياناً والترهيب في أغلب الأحيان، فحتماً سنكون أمام النتيجة نفسها، لأنّ أساليب إحباط الثورة هي نفسها، والطرائق التي تعتمدها الثورة اليوم لم تتبدّل هي أيضاً.

صحيح أنّ الأولويّة تكمن في إنقاذ الشعب اللبناني من هول ما ينتظره اجتماعياً واقتصادياً ونقدياً، لكنّ الفريق الخاطف نجح في ربط تحقيق هذه الغايات بالنتائج التي يطمح بالوصول إليها، وأوّلها تغيير الهوية الكيانية اللبنانية. من هنا، تبرز ضرورة إسقاط هذا الفريق بضربة قاضية ديموقراطية، وذلك بالتعاون بين الحراكين السياسي والشعبي؛ وليس البحث عن حلول ومسكّنات تكون بحكومة مُسيطَر عليها أبريورياً بفِعل السيطرة بقوّة السلاح غير الشرعي على الدولة برُمّتِها.


MISS 3