جوزيف حبيب

لبنان... سباق محتدم بين "الصوملة" و"الإنقاذ"!

22 آذار 2021

02 : 01

لبنان منذ نشأته لا يلبث أنْ يخرج من أزمة إلّا ويدخل في أخرى (فضل عيتاني)

بعدما كان لبنان يُلقّب في منتصف القرن الماضي بـ"سويسرا الشرق"، نظراً لكونه نموذجاً سياسياً واقتصادياً ومصرفياً ومالياً وتربوياً وصحياً... ناجحاً، وسط منطقة مضطربة تعجّ بالأنظمة العسكرية والعقائدية، الشمولية، التي تُدير "منتظمات سياسية" موجّهة على الصعد كافة، أصبح اليوم وبجهود "منظومة النهب والنيترات" وبفضل تحالف "المافيا والميليشيا" يُلقّب بـ"فنزويلا الشرق"، لا بل بات أقرب إلى "النموذج الصومالي" الفاشل، المفكّك والمتهالك، ويخطو خطى "ثابتة ومتهوّرة" في هذا الاتجاه الإنحداري المرعب.

كان لافتاً يوم الجمعة الفائت صدور بيان عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، حضّ فيه الصومال على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية فوراً، وكسر الجمود السياسي، محذّراً من أن الاستعصاء الراهن يؤخّر الإصلاحات المطلوبة بشكل عاجل للصومال لمواصلة السير على طريق الإعفاء الكامل من الديون، كما أنه يُعيق الحرب ضدّ الإرهاب، بينما دخلت الصومال في أزمة سياسية داخلية عميقة مع توقف قادة المعارضة عن الإعتراف بالرئيس محمد عبدالله محمد، الملقب "فرماجو"، بعدما انتهت مدّة ولايته رسمياً في 8 شباط، من دون الإتفاق على تنظيم الإنتخابات، واعتباره رئيساً غير شرعي.

وفي سياق مشابه، بدأ في لبنان الحديث عن احتمال تأجيل الإنتخابات التي من المُفترض أن تُنظّم في أيّار 2022، والتمديد للمجلس النيابي الحالي، الذي بات فاقداً للشرعية بعد انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019، كما حصل أعوام 2013 و2014 و2017 قبل تنظيمها في 6 أيّار العام 2018، بدل الذهاب في اتجاه الدعوة إلى تنظيم انتخابات نيابية مبكرة، الطرح الذي يُثير مخاوف الأكثرية النيابية الحالية من فقدان غالبيّتها داخل المجلس، ما جعل رئيسه نبيه بري يُخرج "أرنباً" جديداً بفتح معركة إلغاء القانون "التفضيلي".

وفي هذا الصدد، كانت اللجان النيابية المشتركة قد باشرت منذ أواخر العام الماضي بمتابعة درس اقتراحات القوانين المتعلّقة بالإنتخابات النيابية، وفي طليعتها المشروع المقدَّم من كتلة "التنمية والتحرير"، والذي يرمي إلى جعل لبنان "دائرة انتخابية واحدة" مع اعتماد النسبية "خارج القيد الطائفي"، ما قد ينسف موعد الإنتخابات ويدخل البلاد في دوامة جديدة من الجدل البيزنطي حول "جنس القانون الإنتخابي"، في خضمّ أزمة وجودية ومعيشية لم يشهد لها لبنان مثيلاً.

أمّا في الصومال، فقد كان "فرماجو" قد توصّل في 1 أيلول الماضي إلى اتفاق مع 5 من قادة الولايات ورئيس بلدية مقديشو لإجراء انتخابات قبل انتهاء ولايته في 8 شباط. لكن المحادثات بينهم عادت وتعقّدت وانتهت بلا اتفاق نهائي، ما دفع مجلس الأمن الدولي في 9 شباط إلى دعوة قادة الصومال إلى الإستئناف "العاجل للحوار" من أجل التوصّل إلى توافق حول ترتيبات إقامة انتخابات جامعة. كما تبنّى مجلس الأمن في 12 آذار الحالي قراراً يُمدّد تفويض قوّة الاتحاد الأفريقي في الصومال "أميسوم" حتّى كانون الأوّل، ويحضّ السلطات على إجراء انتخابات "من دون مزيد من التأخير"، فيما بدأت الفوضى تعمّ البلاد، خصوصاً بعد الإشتباكات المسلّحة التي اندلعت في 19 شباط، عندما حاولت المعارضة الخروج في مسيرة ضدّ تأخّر تنظيم الإنتخابات.

الصومال، التي تشهد عدم استقرار سياسي واجتماعي وأمني منذ 1991 مع سقوط النظام العسكري للرئيس السابق محمد سياد بري، غرقت في حرب بين الفصائل القبلية وتلاها تمرّد لحركة "الشباب" الإسلامية المتطرّفة التابعة لتنظيم "القاعدة" الإرهابي، بينما تحكم البلاد حكومة هشّة، بحيث تُسيطر السلطات الرسمية على قسم فقط من أراضي الصومال، على رغم الدعم الذي تُقدّمه "أميسوم".

وفي المقابل، يشهد لبنان، الذي ما يلبث منذ نشأته أنْ يخرج من أزمة إلّا ويدخل في أخرى وما أن يُرتّب هدنة أو تسوية يدخل في حرب دامية، تفكّكاً متواصلاً لأوصال الدولة مع وجود تنظيمات فلسطينية مسلّحة على أراضيه، داخل المخيّمات وخارجها، و"كيان" "حزب الله" شبه المتكامل إلى جانب الدولة وعلى حسابها، ما جعل لبنان "صندوق بريد" و"ورقة تفاوض" و"منصّة صواريخ" في يد طهران، هذا فضلاً عن تحوّل "بلاد الأرز" إلى "مخيّم كبير للاجئين" السوريين. وبالتالي، كلّ "عناصر" التفجير قائمة ولا تحتاج سوى إلى قرار خارجي ما أو خطأ غير مقصود في الحسابات أو نيّة خبيثة، لكي ينفجر البركان الذي يغلي تحتنا.

الإنسحاب الأميركي بداية هذا العام من الصومال ترك فراغاً سارعت تركيا إلى استغلاله عبر دعم "فرماجو" وتدريب قوّاته المسلّحة بتمويل قطري، فيما تُعاني البلاد من تدخّلات ومشكلات حدودية مع جيرانها، خصوصاً كينيا، الأمر الذي يُعقّد ايجاد حلول للأزمة السياسية الداخلية. ولبنان بدوره، يُعاني من مشكلات حدودية مع إسرائيل وسوريا على حدّ سواء، ومن رَبْطِه بخيارات "المحور الإيراني" على حساب علاقاته التاريخية والإستراتيجية مع الغرب وأصدقائه العرب. حتّى أن "المبادرة الفرنسية" أُجهضت وتُجهض معها كلّ الدعوات الدولية لتشكيل حكومة اختصاصيين فعليّة لمحاولة التخفيف من الإنحدار الحاصل وإنقاذ ما يُمكن انقاذه.

والسؤال بات يُطرح اليوم حول ما إذا كان الإستحقاق النيابي سيحصل العام المقبل واستطراداً الإستحقاق الرئاسي، في وقت تُعاني فيه البلاد من انهيار اقتصادي ومالي ونقدي... وما سيكون عليه الموقف الدولي من لبنان إذا ما فشل في احترام مواعيده الديموقراطية الدستورية؟ وما إمكانية توافر مصلحة دولية في الدفع لتطبيق القرارات 1559 و1680 و1701، وربّما إصدار قرارات مكمّلة جديدة ذات صلة؟

على الرغم من الجائحة العالمية وتداعياتها على الساحة الجيوسياسية الدولية وتغييرها لأولويّات الدول الكبرى، تشهد دول عدّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "مرحلة انتقالية" بمواكبة أممية واضحة، سياسياً ومالياً، لإنهاء الصراعات فيها، وإعادة هيكلة بنيتها الدستورية بما ينسجم مع واقعها التعدّدي، الإثني والقبلي واللغوي والديني... عبر اعتماد الفدرالية ولو بنماذج أوليّة قد لا ترتقي إلى مستوى نماذج الدول الحضارية، كسويسرا والنمسا وكندا. وهذا ما يحصل في ليبيا والسودان على سبيل المثال لا الحصر، وما هو مخطّط أيضاً لسوريا في إطار التسوية السياسية فيها وفق الترتيبات الروسية لها.

صحيح أن الفدرالية لا تحلّ مشكلة السياستَيْن الخارجية والدفاعية إذا لم يتمّ التوافق معها على اعتماد مبدأ "الحياد الإيجابي"، لكنّها تُعيد توزيع السلطات والصلاحيات بشكل عادل على "المقاطعات" التي تتألّف منها الدولة الإتحادية. فمن خلال عمل البرلمانات والحكومات المحلّية تتسيّر شؤون المجتمعات بسلاسة ومن دون عرقلة أو مماطلة أو تجميد في تنفيذ المشاريع الأساسية والحيوية، في ما لو كانت "الحكومة المركزيّة" معطّلة لأي سبب من الأسباب. فالفدراليّة، إن طُبّقت حسب أصولها ووفق حقيقة مقتضياتها وبموافقة المكوّنات الثقافية كافة، "حليفة" الإزدهار الإقتصادي والإنماء المحلّي. فهل تكون الفدرالية وفق "النموذج السويسري" خلاصاً للبنان بدعم من القوى الإقليمية والدولية الفعالة في ما لو صفت النيّات؟ أم أن "بلاد الأرز" ستستمرّ في الإنزلاق نحو "النموذج الصومالي"، الذي يدّعي الفدرالية زوراً، وهو ليس سوى انعكاس واقعي لشبه دولة تافهة مفكّكة الأوصال وتحكمها الميليشيات؟


MISS 3