جورج توفيق غندور

التعييد المشترك للفصح بين العالمية والمناطقية

مبادرة لتوحيد عيد الفصح في ٢٠٢٥

30 نيسان 2021

02 : 00

نور الإيمان
عرف العالم المسيحي قبل تاريخ انعقاد المجمع المسكوني الأول في العام 325، اختلافاً في تاريخ التعييد للفصح بين الكنائس في آسيا الصغرى، التي كانت تحتفل بالعيد في 14 نيسان في أيّ يوم وقع هذا التاريخ، وبين كنيسة روما، التي كانت تنقله إلى يوم الأحد. ولكن هذا الاختلاف لم يدم طويلاً إذ اتّفق الجميع على تعييد الفصح معاً في يوم الأحد الذي يلي 14 نيسان. ولكن فئة رفضت هذا الاتّفاق، وخرجت عن طاعة الكنيسة أطلق عليها اسم بدعة الأربعشريّين.

مع بدء القرن الرابع برزت في الكنيسة مجدّداً مشكلة جديدة بسبب من إصرار بعض الكنائس على التعييد للفصح مع اليهود، وسبب هذه المشكلة يعود إلى أنّ اليهود غيّروا طريقة حسابهم لتاريخ تعييد الفصح بحيث لم يعد هذا التاريخ يرتبط بالاعتدال الربيعيّ وصار يقام دائماً في شهر آذار، أي قبل الاعتدال الربيعيّ. ونتج من هذا التغيير أنّ المسيحيّين صاروا يعيّدون الفصح مرّتين في بعض السنوات، ولا يعيّدونه مطلقًا في سنوات أخرى. ومن هنا نشأت ضرورة فكّ الارتباط بين تاريخ تعييد اليهود للفصح والتاريخ المسيحيّ، وبرزت إلى الوجود التقويمات الفصحيّة التي، وبحسب معظمها، صار يعيّد للفصح دائماً بعد الاعتدال الربيعيّ. ولكن، كنيسة أنطاكية لم تتبع هذه القاعدة وظلّت تتبع في حسابها التاريخ اليهوديّ، فازداد التفاوت في التعييد بين كنيسة أنطاكية والكنائس الأخرى.

ظلّ هذا التفاوت قائماً حتّى تاريخ انعقاد المجمع المسكونيّ الأوّل الذي دعا إليه الأمبراطور قسطنطين الكبير في العام 325 في مدينة نيقية، والذي فيه دحضت بدعة آريوس وتحدّدت كيفيّة التعييد للفصح على الشكل التالي: يتمّ التعييد للفصح في الأحد الأوّل بعد البدر الذي يلي الاعتدال الربيعيّ. لم يحدّد مجمع نيقية الأسس الواجب اعتمادها في تحديد تاريخ البدر والاعتدال الربيعيّ، فتمّ الاعتماد على الجداول الفصحيّة التي كانت تعدها كل من كنيسة رومية وكنيسة الإسكندريّة. ولكن وبسبب من عدم التطابق بين هذه الجداول استمر الخلاف حول تاريخ تحديد عيد الفصح حتى أواخر القرن الثامن حيث تمّ فعلاً توحيد تاريخ التعييد للفصح في العالم المسيحيّ.


البابا يوحنا بولس الثاني



بدعة من الغرب


ظل العالم المسيحي يعيد الفصح معاً حتى القرن السادس عشر ويتبع في حساب تاريخ وقوع عيد الفصح التقويم اليوليانيّ، حتى العام 1582 عندما قام البابا غريغوريوس بتعديل هذا التقويم من دون التشاور لا مع الأرثوذكس ولا مع الإنجيليّين. وقد جاء ردّ رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة على رسائل البابا التي دعتهم إلى اعتماد هذا التقويم سلبياً وفسّر التعديل الجديد بأنّه "بدعة من الغرب". وبرز مجدّداً الاختلاف في تعييد الفصح ضمن العالم المسيحي، وصار هذا الاختلاف، وحتّى أيّامنا الحاضرة، من المظاهر التي تدل على الانقسام داخل الكنيسة جسد المسيح الواحد.

بين تقويمين

ولكن مع توسع اعتماد التقويم الغريغوري على صعيد العالم، دعا البطريرك القسطنطيني ملاتيوس (متكساكيس) إلى قمة أرثوذكسية انعقدت في إسطنبول في العام 1923 بحضور عدد قليل من الكنائس الأرثوذكسية المحلية هي القسطنطينية، وصربيا ورومانيا وقبرص واليونان. وقد ارتأت هذه القمة أنه لا بد من إزالة الفرق بين التقويم الكنسي المتبع بالنسبة للدورة الطقسية فيها، أي التقويم اليولياني، والتقويم المدني المعتمد في المعاملات اليومية من قبل دُوَلها، أي التقويم الغريغوري. وفي هذا الصدد، أكد المجتمعون في هذه القمة "أنه ما من موانع كنسية قانونية تحول دون تصحيح التقويم الكنسي وفقاً للمعطيات الفلكية العلمية المتوافرة". وبناء على ذلك، قررت القمة إدخال تعديلات أساسية على التقويم اليولياني من خلال حذف الـ13 يوماً من التقويم اليولياني التي تشكل الفرق بين السنة الشمسية والسنة الكنسية منذ تاريخ انعقاد المجمع المسكوني الأول وحتى تاريخ صدور القرار، بحيث يصبح تاريخ أول تشرين الأول من العام 1923تاريخ 14تشرين الأول 1923. وأكد القرار أن الأعياد الثابتة تحتفظ بتاريخ التعييد لها كما هو، بينما يتم تحديد تاريخ الأعياد المتنقلة بحسب وقوع عيد الفصح كما جرت العادة. وشدد القرار على أنه، وفق التقليد القانوني الكنسي المعمول به بدقة في الكنيسة الأرثوذكسية، يعيَّد للفصح وفق القاعدة المستقرة منذ المجمع المسكوني الأول أي في الأحد الأوّل بعد البدر الذي يلي الاعتدال الربيعيّ. وأكدّ القرار أن التعديلات المذكورة تعتبر تصحيحاً للتقويم اليولياني وليس اعتماداً للتقويم الغريغوري، وفنَّد الفرق بين هذا التصحيح والتقويم الغريغوري، معتبراً أن "هذا التصحيح لا يمكن أن يشكل أي عائق أمام أي تعديل في المستقبل يمكن أن تتفق عليه جميع الكنائس المسيحية". لم تتجاوب الكنائس الأرثوذكسية المحلية الأخرى مع هذا القرار، فانقسم العالم الأرثوذكسي بعد هذه القمة إلى كنائس تعتمد التقويم اليولياني القديم، وأخرى تتبع التقويم اليولياني المصحح، كما شهدت الكنائس المحلية التي اعتمدت التقويم المصحح عدداً من الانقسامات داخلها بسبب تغيير التقويم هذا.

ومع تعديل التقويم في ظرف تاريخي صعب، ومن قبل لجنة لا تمثل جامعية الكنائس الأرثوذكسية، لم تعد الكنائس الأرثوذكسية تحتفل معاً لا بالأعياد الثابتة ولا بالأعياد المتنقلة التي تدور حول عيد الفصح. وقد طال هذا الأمر لعقدين من الزمن، شكلت خلالهما مسألة التقويم معضلة العالم الأرثوذكسي، حتى تمّ إيجاد حل لها خلال المؤتمر الأرثوذكسي العام الذي انعقد في موسكو في العام 1948. فقد قرر المؤتمر "أنه يتوجب على العالم الأرثوذكسي بأسره أن يعيّد للفصح المقدس وفقاً للتقويم اليولياني (القديم) فقط، على أساس الطريقة الاسكندرية في احتساب التعييد للفصح. أما في ما يتعلق بالأعياد الثابتة، فيعتبر المؤتمر أنه يمكن للكنائس المستقلة أن تستخدم التقويم المعمول به لديها، وذلك حتى إعداد وإقرار تقويم جديد أفضل". وبعد هذا القرار عادت الكنائس الأرثوذكسية المحلية إلى تعييد الفصح معاً وفقاً للتقويم اليولياني، بعد اختلاف في تاريخ التعييد دام عقدين من الزمن.



إثينا غوراس الأول



سعت الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة خلال العمل التحضيري للمجمع الكبير الذي أطلقه البطريرك أثينا غوراس (الأول) في جزيرة رودوس في العام 1961، إلى بحث مسألة توحيد التقويم وتوحيد التعييد للفصح في العالم المسيحي، لكي يأتي هذا التعييد وفقاً للتقويم الذي يعتبره الفلكيّون الأكثر دقّة، ولكن بعد جهود طويلة بذلت في هذا الصدد على مدى قرنين من الزمن، اتضح فيها أن التقويمين اليولياني والغريغوري بحاجة إلى مراجعة علمية توصلت الكنائس الأرثوذكسية مجتمعة في العام 1982 إلى الاستنتاجات التالية:

‌أ- أن مسألة توحيد التعييد للفصح بمجملها، تتجاوز كونها مسألة بحت علميّة، لأنّها مسألة وعي للذات الكنسيّة الأرثوذكسيّة الواحدة وغير المنقسمة، هذه الأرثوذكسيّة التي لا يجوز أن تتعرّض وحدتها لأيّ اهتزاز.

‌ب- وهذه المسألة تفترض من الكنيسة، أن تبادر، وبطريقة مسؤولة، إلى تقويم مهامها الرعائيّة والحاجات الرعائيّة التي تتلاءم وقطيعها.

‌ج- إنّه، وفي الظروف الكنسيّة الحاضرة، فإنّ شعب الله المؤمن غير مهيّأ وغير محضّر علمياً، لكي يواجه، أو يقبل أيّ تغيير في مسألة تاريخ تعييد الفصح.

1 - لكلّ هذه الأسباب، فإنّ كلّ تغييرـ يتوخّى دقّة أكثر في تاريخ تعييد الفصح، الذي نعيّده منذ قرون معاً- يجب أن يؤجّل إلى وقت آخر ملائم، تسمح به الإرادة الإلهيّة.

2 - وإنه من الضروريّ أن تبادر الكنائس المحلّيّة إلى إعلام شعبها وبشكل مدروس حول هذا الموضوع لتتمكّن الأرثوذكسيّة، في سعة القلب والفكر، أن تخطو نحو توحيد تعييد عيد الأعياد في المسيحيّة. وهذا بتشدّد وأمانة لنصّ المجمع المسكونيّ الأوّل وروحه.

3 - إنّ التقويم والآراء حوله، وكلّ الأوضاع غير الطبيعيّة التي نشأت بسببه، يجب ألاّ تؤدّي إلى انقسامات، أو اختلافات، أو انشقاقات. وأنّه حتّى من هم على اختلاف بالرأي مع كنائسهم القانونيّة يجب أن يعتمدوا المبدأ الذي كرّسه التقليد وهو طاعتهم لكنائسهم القانونيّة واندماجهم في الشركة الإفخارستيّة، وذلك لأنّ "السبت جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت" (مر2: 2).

بعد هذا القرار أقفل الحديث نهائياً حول مسألة توحيد الفصح، داخل عائلة الكنائس الأرثوذكسية، ليعود ويفتح في العام 2014 في معرض العمل التحضيري للمجمع الكبير حيث تقرر بالإجماع حذف هذا البند من جدول أعمال المجمع العتيد بسبب الخلاف حوله بين الكنائس الأرثوذكسية المحلية.

ولكن إقفال هذا النقاش على الصعيد الأرثوذكسي لم يحل دون إعادة إطلاق مبادرات بهذا الشأن، كان أهمها تلك التي أطلقها مجلس الكنائس العالميّ بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط خلال المؤتمر الذي عقد في حلب بين 5 و10 أيّار 1997 بمشاركة مندوبين من كلّ الكنائس. إذ تمّ خلال هذا المؤتمر اقتراح بأن يتم احترام ما نصّ عليه مجمع نيقية لجهة الاحتفال بالفصح في الأحد الذي يلي أوّل بدر ربيعيّ، وحساب المعطيات الفلكيّة (الاعتدال الربيعيّ والبدر) وفقاً للطرائق العلميّة الأكثر دقّة ممكنة، واعتماد كقاعدة للحساب الخطّ الهاجريّ الأورشليميّ لأنّ أورشليم هي مكان الصلب والقيامة. شكل هذا القرار تبنياً لما توصل إليه الأرثوذكس خلال بحثهم لمسألة التقويم.


الفصح لدى الطوائف الشرقية



موافقة كاثوليكية ثم تراجع

أما على الصعيد الإنطاكي، فقد برزت محاولات لتوحيد التعييد مناطقياً، بعدما أعلن البطريرك غريغوريوس (لحام) خلال استقباله لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني في دمشق، أن الروم الكاثوليك سيعيدون الفصح مع الأرثوذكس ابتداءً من العام 2002 في كل من لبنان وسوريا، بالاستناد إلى السماح البابوي خلال المجمع الفاتيكاني الثاني، ولكنه عاد وتراجع عن وعده معتبراً «أنه قد سعى كثيراً من أجل ذلك ولكن بدون نتيجة وبأنه لا يمكنه أن يقرر عن باقي الطوائف الكاثوليكية».

وعليه يتبين أن توحيد التعييد للفصح على الصعيدين العالمي أو المناطقي، ليس مسألة علمية، ولكنه مسألة وعي للذات عند الطوائف الأرثوذكسية والكاثوليكية على حد سواء، التي يخشى كل منها الاقدام في هذا الاتجاه خوفاً من انقسامات داخلية تطالها ولا سيما بسبب ارتباط مسألة التقويم بمسألة الانشقاق في الذاكرة الجماعية للمؤمنين.

ولكن وبالرغم من هذا الجمود، فإن الحديث يجري عن إطلاق مبادرة تهدف لتوحيد التعييد للفصح بمناسبة الاحتفالات التي يحضر لها في الذكرى 1700 لمجمع نيقية خلال العام 2025. فهل ستنجح هذه المبادرة؟ أم سيبقى العالم المسيحي برمته أسير تقويمين باتا اليوم غير دقيقين خوفاً من الانشقاقات المحتملة التي يمكن أن يحملها أي تغيير يطال التقويم؟ ربما من المفيد التذكير بأن تعييد الفصح الشرقي في هذه السنة لا ينسجم مع قرار المجمع المسكوني الأول، إذ يأتي بعد البدر الثاني الذي يلي الاعتدال الربيعي بحسب المعطيات الفلكية الدقيقة، وأن التقويم الغريغوري لا يتوافق مع المعطيات الفلكية في بعض الأحيان أيضاً.

يبقى أن العالم الأرثوذكسي الحالي بسبب الخلافات الداخلية التي سببتها المسألة الأوكرانية غير مهيّأ لاتخاذ أي قرار جامع في مسألة توحيد الفصح! فهل يتم الاستعاضة عن ذلك بقرارات مناطقية تسمح للمؤمنين في منطقة جغرافية واحدة بالاحتفال معاً بالفصح؟


MISS 3