د. هشام حمدان

كتاب مفتوح إلى معالي وزير خارجية فرنسا

4 أيار 2021

02 : 00

من ينظر في صفحات الاعلانات ولا سيما المجانية، يجد عشرات الإعلانات للشباب المهنيين للسفر من أجل العمل في الخارج. وقد لاحظت دخول الصين على هذا الخط. لبنان يفرغ من ثروته البشرية. هذا هو الفقر الحقيقي. هذا هو الثمن الأكبر لواقع السلطة الفاسدة التي اوصلت أبناءنا الى هجر وطنهم. فماذا تتوقعون من الذين تجسّدت فيهم كل ثقافات الفساد والإتجار، ليس بالكرامات فحسب، بل بالانسان نفسه؟ ماذا تتوقعون ممن تلوّثت ايديهم بالصفقات والولاءات العقائدية واغتيال الاحرار، وبتفجير مرفأ بيروت؟ هل تتوقعون ان ينقلبوا على أنفسهم من أجل إرضاء الرئيس ماكرون؟

يا معالي الوزير،

وطنك حمل لبنان في قلبه منذ ألف سنة. أنا لا يهمّني انك دخلت الى الشرق من بوابة الطوائف، يهمّني ألّا تخرج منه بسبب صراع الطوائف.

أنت تعلم تماماً أي عالم جديد نعيشه اليوم، وخاصة في الشرق الأوسط، من خلال التقسيمات الجديدة له. لم تعد المشاعر الطائفيّة والمذهبيّة هي التي تحكم حاجة هذه الطوائف للبقاء، بل المصالح التي لا تتأطّر إلّا في إطار دولة. وأنت ترى حقيقة هذا الأمر من خلال هذه التقسيمات التي بدأت أصلاً بإنشاء دولة إسرائيل، وكان يراد لها أن تكتمل بإنشاء الدولة الكردية في العراق، والعلوية في سوريا، والدرزية في لبنان. وقد توقّف هذا المشروع عند موجب إحترام مصالح لاعبين آخرين في المنطقة والعالم، ومنهم فرنسا وروسيا وتركيا.

لم يتفاعل اللاعبون المحليون مع هذه المجريات، وذلك لأن كلاً منهم ينتظر الإشارة من شركائه في المنطقة والخارج ليتخذ الموقف الملائم. بعض أصدقائكم من هؤلاء اللاعبين، ولا سيما من هم جزء من الثقافة التي احتضنتموها طويلاً في لبنان، استجابوا لمقاربتكم للواقع القائم في البلاد، رغم أنهم يدركون أنكم تخاطرون جرّاء هذه المقاربة، بمصالحكم ومصالحهم. أما الآخرون، بمن فيهم أفراد ترعرعوا في دياركم، ويحملون راية الطائفة التي حملت فرنسا الى هذا الشرق، ما زالوا يمنعون فرنسا من تحقيق رؤيتها القائمة على أساس التسوية بينهم.

تركتم سوريا رغم أن الوصاية الدوليّة حملتكم إليها وإلى لبنان، فتولّاها النسيج العقائدي الذي دفعهم الى حضن الإتحاد السوفياتي. ذهب الإتحاد السوفياتي لكن روسيا الإتحادية عرفت كيف تملأ الفراغ فوراً. فعندما تهدّد النظام العقائدي في دمشق، سارعت الى التدخّل العسكري، ليس لحمايته، بل لحماية بقائها في هذا الشرق. ربما أنك لاحظت أن بشار الأسد لم يستقبل قادة البعث في عيدهم مؤخراً، فماذا يعني ذلك؟

لبنان دفع ثمن صراع العقائد الإيديولوجية طويلاً. يكفي ذلك. لا نريد أن ندفع ثمن صراع العقائد الدينية الآن. العقائد الإيديولوجية سقطت، ورغم ذلك اعترف العالم لروسيا بمصالحها في سوريا، وليس بتاريخها وإرثها العقائدي. أمّا فرنسا، فما يربطها بلبنان ليس إرثها العقائدي الإيديولوجي، انما تاريخ طويل من العلاقات الإنسانية، قامت أولاً على العامل الديني، لكنها تطوّرت تدريجياً لتتحوّل إلى علاقات ثقافية وتربوية وإقتصادية ومؤسّساتيّة مميّزة. لبنان جزء من المجموعة الثقافية الفرنكوفونية. العامل الديني ليس هو العامل الحاسم في العلاقات بين أعضائها، بل هي الثقافة. هذا العامل إزداد حضوره متانة في شرقنا، وتحوّل مدخلاً لتحقيق مصالحكم في المنطقة، وكذلك مصالح أهل المنطقة معكم، في أجواء من الاحترام المتبادل والرقيّ الحضاري. من واجبكم نحو تاريخكم أولاً، ونحو اللبنانيين الذين شاركوكم هذه الثقافة، وكذلك من أجل مصالحكم، ومن أجل أصدقائكم في المنطقة، ان تكونوا سلاحاً حاسماً على أرض لبنان، وليس واسطة لتسويات يدفع ثمنها يوماً بعد يوم هذا الوطن برمته.

ليس الموارنة فحسب بين المسيحيين، من هم بحاجة لمساعدتكم لحماية لبنان، بل كل اللبنانيين الأحرار من كل الطوائف المسيحية والإسلامية والدرزية وغيرهم.

كفى تلهّياً بالتسويات. لا تسويات داخل لبنان. أنتم تدركون ذلك. تعلمون أن حزب ايران لا يمثّل الشيعة الاحرار، بل ولي الفقيه الإيراني. هو لا يقدم لكم أيّة خدمة من دون رضى ولي الفقيه. وتعلمون أنّ ولي الفقيه في ايران، لا يرى في شيعة لبنان وغيرهم، سوى حصان طروادة لاقتحام أسوار الدول العربية التي كانت مقفلة بوجهه. هو استفاد من مرحلة التغيير في الشرق الأوسط، ويريد أن يقنعكم بلعبة التسوية ربحاً للوقت إلى أن ينهي صفقته مع الأميركي. عندها سيعود ليفاوضكم، ليس بصفتكم راعياً للواقع في لبنان، بل كشريك لكم. أنتم لستم حصانه الى العالم الجديد. ومن المؤسف عندها ستخسرون عربة لبنان التي ستجرّها معكم أو بدلاً عنكم، أحصنة أخرى، وبمساعدة ركّاب كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم مساعدوكم.

أنت تعلم أنني اقصد السيد جبران باسيل الذي يلعب بعواطف قسم كبير من موارنة ومسيحيي لبنان اليوم.

هذا المهندس الشاب الذي ترعرع في فرنسا، ودرس في الجامعة الأميركية، يحمل ثقافة مختلفة. تراه يوماً في باريس، ثم في روسيا، ثم في المجر، وعينه دائماً على أميركا. يحلم بالكرسي ولا يهمه من أين تأتي. من يعطيه الكرسي، هو مالكه كما ملك عمه قبله. أنت تعلم أن حزب ولي الفقيه هو رافعته، ولذلك لن يتخلى عنه. فلا تعتقدنّ أنه سينقلب على نفسه وعليهم من أجل إرضائكم وحماية هذا التاريخ الطويل من العلاقات الثقافية والإنسانيّة بينكم وبين وطنه لبنان. الغاية تبرّر الوسيلة. هذا شعاره العملي.

باسيل الذي يرتجي الكنيسة يوم الاحد، يلعب لعبة المصالح الحديثة. فحاشيته تضم رموزاً فاعلة كالاستاذ ابراهيم كنعان، أحد الشركاء العاملين مع شركات بريطانية، والسيد أمل ابو زيد، رجل الإنفتاح في هذا العهد على روسيا، والأستاذ الياس ابو صعب مؤسّس الجامعة الأميركية في الإمارات، والذي تخرّج من مدارس بريطانيا والولايات المتحدة، ولديه علاقة مميزة مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون.

بالطبع هم طاقات كبيرة نفتخر بها، لكنهم في السياسة يلعبون لعبة لا تتوافق مع واقع لبنان الثقافي المتعدّد في هذه المنطقة، بل مع مصالحهم. فحريّ بفرنسا أن تدرك أن جانب العواطف التاريخية صار خلفنا، ولا سيما الآن حيث نحن في مرحلة الحسم.

أنا لا أتكلّم الفرنسية بل الإنكليزية. وأعيش في أميركا. ولكن رغم ذلك، أؤمن بأن مصير لبنان كما عرفناه عبر التاريخ الإستقلالي الحديث، بين أيديكم. الآخرون لا يهمّهم هذا التاريخ، بل ثروات لبنان. وهذا أمر مفهوم. وأنتم أيضاً يهمّكم ثروات لبنان. وهذا أمر مفهوم أيضاً. لكنكم تملكون تاريخاً في لبنان أبعد بكثير من التاريخ الروسي في سوريا، مما يعطيكم حق الدفاع بشراسة، حتى بين حلفائكم، عن مصالحكم في لبنان. ونحن نطلب منكم أن تفعلوا ذلك. ندرك أن ثروات لبنان لا تؤتينا بثمار من دون تفاعل المصالح، لكننا نريد ان نحافظ على لبنان الصيغة ودوره التاريخي الذي لعبه طويلاً.

أخشى أن تكون زيارتك إلى لبنان هي الأخيرة قبل أن تنتهي لعبة الإنتظار لإنجاز الإتفاق بين إيران والولايات المتحدة. نتطلّع لمساعدتكم ليس كصديق للبنان فحسب، بل كراع لكتلة الفرنكوفونية الثقافية في العالم. أنت في منطقة لم تعد تحتمل ثقافة التسويات، وإنما تنشد ثقافة القرارات. فرنسا لم تشارك في بناء الأمم المتحدة فحسب، بل في تنميتها وتعزيز دورها. أنتم دولة عظمى شاركت أيضاً، في تحديد مفاهيم نظام حفظ الأمن والسلم الدوليين بعد الحرب الباردة. رجاؤنا أن تحملونا الى حضن الأمم المتحدة. ونحن نختار البطريرك الراعي، لينقل رسالتنا الى العالم. مجد لبنان منح لبكركي، وليس لحارة حريك أو غيرها.

ساعدونا لاستعادة السيادة والإستقلال والحرية والحياد وبناء السلم بعد النزاع. العالم يعترف بمصالحكم في لبنان. فلا تهملوا أصدقاءكم الذين وثقوا بكم خلال علاقاتكم التاريخية الطويلة معهم، من أجل جدد لا يهمّهم منكم إلّا ما يخدم مصالحهم.

بكل احترام

أوستن بتاريخ 2 أيار 2021


MISS 3