عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الذي لا وقت لديه كي يَشيخ

14 أيلول 2019

11 : 08

هذا العام، احتفل المفكّر وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران بعيد ميلاده الثامن والتسعين، وصدر له كتاب جديد بعنوان "تأتي الذكريات لملاقاتي" عن دار "فايار" الباريسيّة. يروي في هذا الكتاب فصولاً من حياته الغنيّة بالأحداث، ويلتقط اللحظات التي أدهشته وطبعت مساره وتركت أثراً عميقاً في نفسه. حتّى اليوم، لا يزال موران يكتب ويُحاضر ويسافر بين القارّات معبّراً عن آرائه وعن هواجسه الأساسيّة، وفي مقدّمها مصير هذا الكوكب والإنسانيّة معاً. هذه الإنسانيّة التي تواجه تحدّيات كبيرة وتستدعي "إصلاح الحياة" نفسها، وفق تعبيره، من خلال إصلاحات اقتصادية وسياسية وتعليميّة.

ينبّه إدغار موران، منذ سنوات طويلة، إلى المخاطر الناتجة عن مشكلة تدهور البيئة وانعكاسها على غابة الأمازون والجليد القطبي، وعلى المناخ بشكل عام، وتأثيرها على الإنسان وسائر الكائنات الحيّة. كما يحذّر من فراغ الفكر السياسي ومن نَسَق اقتصادي ينذر بالكوارث. ويرى أنّ التقدّم العلمي والتكنولوجي لا يواكبه تقدّم على المستوى الإنساني وعلى مستوى الحياة المعنوية والروحية.

في كتابه "سياسة حضاريّة" الذي اقترض منه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، قبل بضع سنوات، مفهوم "سياسة الحضارة"، يعتبر موران أنّ البشرية اليوم تعيش بين همجيّتين: واحدة تأتي من سحيق الأزمنة وتجلب معها الحروب والمجازر والتعصّب والشعور بالنفي والاغتراب، وتنتج مزيداً من السيطرة والاستغلال، والثانية تفد من حضارة تقنية صناعية تفرض منطقها الآليّ الجامد الذي يتجاهل الأفراد وأجسادهم ومشاعرهم، ويضع في يد السلطة أسلحة الدمار الشامل ووسائل المناورات والتلاعب.

ويلاحظ إدغار موران في بعض مداخلاته وكتبه أنّ ثمّة عصراً صناعياً آخر بدأ في القرن الماضي، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، مهمّته تصنيع الصور والأحلام. إنّ الإعلام الجماهيري الموجّه إلى أوسع القطاعات والذي يتصدّره التلفزيون هو جزء من هذه الوسائط التي أحدثت ما عُرف بِـ "الواقع الافتراضي"، وهو، بحسب رأي المؤلّف، "الاستعمار الثاني"، العمودي هذه المرة وليس الأفقي، لأنّه يدخل الاحتياط الكبير الذي هو النفس البشرية، هذه النفس التي أصبحت مستعمرة جديدة: إفريقيا جديدة وآسيا جديدة. شبكة هائلة من وسائل الاتّصال تحاصر العالم والأقمار الصناعية تطوّق الجهات الأربع. وهكذا فإنّ عملية تصنيع الكائن تسير جنباً إلى جنب مع التطوّر التكنولوجي. تستأثر بجسد الإنسان وبروحه على السواء. تخترق مجاله الداخلي، تسلّع وتبيع كلّ شيء بما في ذلك العواطف والأحاسيس.

لا تنحصر مساهمات موران في كتاباته الفكرية والنظرية، بل هو صاحب موقف من القضايا السياسيّة الراهنة. في العام 2002، رفعت بعض الجمعيات اليهودية، ومنها "جمعية فرنسا – إسرائيل"، دعوة قضائية ضدّه بتهمة العنصرية ومعاداة الساميّة. ولقد جاءت هذه التهمة إثر نشره مقالاً في صحيفة "لوموند" الفرنسية، بالاشتراك مع سامي نايير ودانييل سالناف. في ذلك المقال الذي جاء بعنوان "إسرائيل – فلسطين: السرطان"، انتقد الكتّاب الثلاثة السياسة الرسميّة الإسرائيليّة التي حوّلت حياة الفلسطينيين إلى جحيم، وممّا ورد في المقال أنّ "اليهود الذين كانوا في السابق ضحايا نظام لا يرحم، يفرضون اليوم نظامهم الذي لا يرحم على الفلسطينيين". هذه العبارة كانت كافية لإطلاق حملة شرسة ضدّ موران رافقتها تهديدات بالقتل. وهذا ما دفع عدداً من الكتّاب والمثقّفين إلى التوقيع على بيان للدفاع عنه وعن القيم التي يمثّلها في شخصه وفي نتاجه.

عندما صدر كتاب "سياسة حضاريّة" في العام 1997، التقيتُ إدغار موران في منزله، ومن العبارات التي تلفّظ بها أمامي آنذاك: "إنّ العلاقة الهمجيّة مع الأفكار هي واحدة من أفظع ما حدثَ للبشر، وهي التي دفعت إلى ابتكار آلهة رهيبة لا تشبع من المطالبة بالأضاحي البشريّة".


MISS 3