د. ميشال الشماعي

الحرب الإعلاميّة النفسيّة

11 أيار 2021

02 : 00

يستغلّ المحور الايراني في لبنان الأحداث كلّها لشنّ حربه الإعلاميّة على اللبنانيّين بهدف ترويعهم نفسيّاً، وإظهار نفسه الغانم الأكبر في مرحلة المفاوضات الكبرى. وذلك لا يأتي نتيجة لقوّته العسكريّة التي مكّنته من إطباق شبه كلّي على السلطة في لبنان وحسب، بل نتيجة لضعف الحجّة السياسيّة عند الفريق الآخر. فهل سيستطيع محور إيران الخروج من المفاوضات الكبرى بتوكيل أممي للإطباق على لبنان؟

في مراجعة تاريخيّة بسيطة، يتبيّن لأيّ باحث بأنّ زمن المفاوضات الكبرى غالباً ما يكون مرتبطاً بوقوع أحداث مفاجئة قد تقلب موازين التفاوض، وتفرض واقعاً جديداً. وما يدور من أحداث يوميّة أكان في فلسطين المحتلّة، أو من حرائق لا يعرَف إن كانت مفتعَلَة بالقرب من المفاعل النووي الايراني في بوشهر الايرانيّة، أو الضربات المتتالية في سوريا للقوات الايرانيّة ولـ"حزب الله" اللبناني، هذه كلّها قد تؤدّي في لحظة تفاوض ما إلى إعادة عقارب التّفاوض إلى الصفر، أو حتّى قد تؤدّي إلى نسف العمليّة التفاوضيّة برمّتها. لا سيّما وأنّ وتيرة التفاوض هي متناقضة بين طرفي العمليّة التفاوضيّة؛ ففي حين أنّ إيران تريد تسريع إيقاع هذه العمليّة لتتحرّر من العقوبات الأميركيّة ولتحرّر أموالها المحتجزة، تسير الولايات المتّحدة الأميركيّة على إيقاع بطيء جدّاً لتحصّل ضمانات أكبر لها وللمجتمع الدّولي على السواء.

وعلى هذا الوتر بالذّات تنشط الماكينة الاعلاميّة المرتبطة بالمحور الايراني في لبنان لتعلن بطريقة مباشرة استسلام المحور المناهض لإيران على طريقة الرّضوخ لإرادة الراعي الدّولي للتفاوض. وهذا ما أمّن تماسكاً لبيئة المحور الايراني في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي يعانيها لبنان اليوم. وهذا ما سيؤمّن بدوره القدرة السياسيّة لـ"الحزب" وللعهد للإنصراف إلى كيفيّة التخطيط للإطباق على ما تبقّى من مواجِهين لهما في لبنان، وذلك على قاعدة انتصار محورهما في التفاوض. فيما أنّ العمليّة التفاوضيّة تكاد أن تكون في بداياتها.

ولا يألو جهداً "الحزب" في الاستثمار السلبي لدور الدّيبلوماسيّة الأوروبيّة لا سيّما بعد زيارة لودريان الأخيرة. فهو سيسعى حتماً إلى فرض المزيد من الشروط الدّاخليّة، لا سيّما في موضوع ولادة الحكومة العتيدة، على إيقاع العمليّة التفاوضيّة، ما سيؤخّر ولادتها أكثر. وهذا عنصر إضافي اكتسبه محور إيران في لبنان، واستخدمه في حربه النفسيّة التي لا شكّ في أنّها أرخت ظلالها في نفوس الضّعيفين وحديثي الولادة السياسيّة الذين لم يختبروا المقاومة يوماً.

وما يُلاحَظُ في السياق عينه انشغال الولايات المتّحدة عن أيّ ملفّ في المنطقة بسبب الملفّ الكبير أي ملفّ التفاوض. وهذا ما سيسمح بهامش إضافيّ للديبلوماسيّة الأوروبيّة التي لا يُعَوَّلُ عليها كثيراً، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّها ستكون مزعجة في عقوباتها إذ ستحدّ من حريّة الفريق الحاكم. ومن المؤكّد أنّ الوجود التقليدي لأوروبا في لبنان عبر فرنسا لن يتمّ التخلي عنه، ماذا وإلا ستخسر أوروبا مجتمعة أيّ دور مستقبلي لها في السوق النفطيّة القادمة طوال الـ25 سنة المقبلة.

ما لا يمكن إغفاله في السياق التفاوضي أنّ إيران ستقدِمُ على مجموعة تنازلات. ومخطئ مَن يظنّ أنّ لبنان لن يكون في صلبها. يكفي مراقبة استثمارات السفارة الأميركيّة في لبنان، إن كان مباشرة أو غير مباشرة عبر المنظمات غير الحكوميّة، وذلك لاستنتاج أنّ لبنان اليوم لا يشبه لبنان في مرحلة حافظ الأسد ودخول الكويت. وضع إيران هو الأصعب وليس كما يحاول أبواقها في لبنان تصوير عكس ذلك. فهي ستخسر مناطق نفوذ كثيرة في المنطقة ولن ينفع أن يكون لبنان جزيرة معزولة لها. فهذه المسألة ستشكّل عبئاً إضافيّاً عليها، وليس من الضروري أن يكون ماديّاً، بل سياسيّاً، لأنّ مسار عمليّة السلام والتطبيع سيكون المرحلة القادمة.

حتّى التقارب العربي – العربي تجاه نظام الأسد لن يكون خدمة لإيران بل هو نقطة متقدّمة في مسار عمليّة السلام القادمة. ولعلّ هذه أبرز الشروط الإسرائيليّة على الدّول التي أقدمت على التطبيع معها. فبقاء الأسد، أو على الأقلّ، منهجيّة نظامه تشكّل خدمة لإسرائيل. وأيّ تغيير في سوريا لن يكون إلا في هذا السياق. ممّا لا شكّ فيه أنّ "حزب الله" بحربه الاعلاميّة النفسيّة على اللبنانيّين، يتأمّل أن يملك المفاتيح اللبنانيّة كلّها في حال تحوّله إلى راعٍ للسلام مع لبنان، على خلفيّة سيطرته وحلفائه على الدّولة اللبنانيّة. وذلك على قاعدة أنّ السلام لا يُصنَع إلا مِن قبل أطراف الصراع أنفسهم. لكن ذلك لن يتمّ لأنّ لبنان ما كان يوماً من لون واحد. ولن يكون إلا لبنان الرسالة.

وفي هذا السياق بالذات، ما يجب ملاحظته هنا، أنّ مواجهة محور إيران في لبنان لم تعد تقتصر على اللبنانيّين وحدهم، بل تحوّلت إلى مواجهة أمميّة للحفاظ على الهويّة الكيانيّة للبنان، وذلك من بوّابة الفاتيكان نفسه. ومشروع بكركي هو الواجهة والدّرع الذي ستواجه فيه الفاتيكان. من هنا، لا يمكن أن ينجح أيّ فريق في لبنان بالهيمنة الكليّة، حتّى لو دفع بـ"سالومي" عنده إلى الرقص عارية أمام اليهوديّ والأميركيّ والعالم كلّه.

مخطئ مَن يظنّ اليوم أنّ لبنان ليس أولويّة أمميّة. وهذا ما ضخّه محور إيران إعلاميّاً، مبرّراً في ذلك عدم اكتراث الدّول بالعزلة الديبلوماسيّة التي وضع العهد وأوصياؤه، أي إيران وسوريا و"حزب الله"، لبنان فيها. ومن المبالغة هنا تصوير الوضع النفسي للبنانيين بأنّه في الحضيض، لكأنّ تاريخ مَن قاوم أعتى الاحتلالات في لبنان قد مُسِحَ بشطبة قلم تحت ذريعة الحقوق الوهميّة للمسيحيّين أو سواهم!

هذا التهويل الاعلامي – النفسي ساقط مسبقاً، ولن يجدي أيّ نفع في ظلّ بلد منهار ومنهك، ولن ينفع في ظلّ وجود وجدان مقاوماتي لم يُهزَم يوماً في لبنان على مرّ التاريخ. وسياسة تهديم مقوّمات الدّولة التي ينتهجها محور إيران وحليفه في لبنان لن تنجح في تحويل الجمهوريّة إلى مادّة دسمة في حقل التفاوض الذي إن تسارعت الأحداث الاقليميّة قد يتعرّض إلى نكسة تعيده إلى نقطة الصفر، أو مَن يعلم إذ قد تنسفه بالكامل!

وحده الخائف يخسر، ونحن كلبنانيّين كيانيّين متمسّكين بهويّتنا الكيانيّة لم نخف يوماً. ومَن له أذنان للسماع... فليسمع !


MISS 3