رامي الرّيس

من أين نبدأ؟

12 أيار 2021

02 : 00

الأفق المسدود الذي وصلت إليه البلاد ينذر بعواقب خطيرة، ليس فقط بسبب فداحته وضراوته على مختلف جوانب الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة؛ بل أيضاً بسبب إنعدام المسؤوليّة الوطنيّة وسقوط آليات التغيير التي من المفترض سلوكها للخروج من المأزق الراهن والسعي نحو إعادة إستنهاض الواقع الراهن بما يوفر الحد الأدنى من المقومات المطلوبة لبقاء لبنان بصيغته الراهنة القائمة على التعدديّة والتنوّع والحريّات.

ليس لبنان البلد الوحيد في العالم الذي تواجه سلطاته الدستوريّة والسياسيّة مآزق عميقة يكون عنوانها الأساسي الإنسداد التام للحلول السياسيّة للمشاكل المتراكمة؛ ولكن المشكلة التي تعيد إنتاج نفسها في لبنان تتمثل بتكريس تلك الأعراف التي صارت جزءاً من الممارسات اليوميّة المعتادة وفي مقدمها زهو بعض الأطراف السياسيّة بأنها تمتلك حق النقض وبالتالي حق التعطيل وشل المؤسسات لأشهر طويلة.

إن هذا المفهوم المغلوط، لا بل المشوّه، لطبيعة العمل الوطني والسياسي، وهذا الضرب المنهجي لأحكام الدستور ومضامينه التي تحدد أسس المشاركة في السلطة؛ إنما يضرب فلسفة العيش المشترك التي كرّسها إتفاق الطائف وثبّتها بصيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ولعله يُسجّل لهذا الاتفاق الذي توجست منه أطراف معيّنة ورفضته وحاربته وحاولت منع تنفيذه بالقوة، أنه أكد على هذه المعادلة الكبرى وعزلها عن قضيّة النمو الديموغرافي والتغيّر العددي والسكاني، فجعلها ممراً إلزاميّاً للحفاظ على الشراكة بالدرجة الأولى ودون إعارة أي وزن لأي مقياس آخر.

إلا أنه لا مفر من القول بأن إنعدام الثقافة الدستوريّة عند البعض وإستعدادها لربط مستقبل البلاد برمتها بمصالحها الفئويّة الخاصة (والشخصيّة في بعض الحالات) دفع إلى سوء إستغلال لهذه القاعدة الجوهريّة وحوّلها إلى منصة للإنقضاض على الصيغة السياسيّة برمتها فعرّضها ويعرّضها لخطر الاهتزاز والسقوط في لحظة سياسيّة معيّنة وتالياً إستبدالها بصيغة سياسيّة جديدة تعكس موازين قوى جديدة مغايرة عن تلك التي كانت في حقبة إنجاز إتفاق الطائف.

الأكيد أن أي صيغة جديدة يتم التوصل إليها (على إفتراض أنها ستتولد نتيجة حوار وطني وليس نتيجة فرض قهري) ستمثل تراجعاً عن الصيغة الحاليّة ليس بسبب النجاحات الباهرة التي شهدتها الصيغة الراهنة التي قد تكون اللحظة الراهنة هي الأسوأ للدفاع عنها بسبب الانهيارات اليوميّة المتتالية التي تشهدها البلاد. ولكن الأكيد أيضاً أن الصيغة البديلة لن توفر مقومات النجاح المنتظر لأنها بكل بساطة ستعكس المناخ السائد في الإقليم وهو مناخ مناقض بطبيعته وتكوينه وأدواره وأهدافه طبيعة التكوين اللبناني، الذي رغم هشاشته المقلقة، يبقى نموذجاً في العيش المشترك بالرغم من كل المصاعب والتحديات.

ولعل هذا المناخ السياسي المتفلت من كل القيود (الأخلاقيّة بالدرجة الأولى تليها القيود الدستوريّة والسياسيّة) هو الذي يشكل وعاءً ملائماً، لطروحات سياسيّة تتناقض مع وحدة الأرض والدولة والمؤسسات، وتقترح مخارج للأزمة العميقة الراهنة، فهي ليست سوى وصفات لمزيد من التشرذم والانقسام بين اللبنانيين، ولو حسنت نوايا البعض في هذا المجال.

إن المخرج الملائم من الأزمة الراهنة المستفحلة لا يكون بالترويج لمشاريع لفظها التاريخ ولا تتلاءم مع الجغرافيا، ولا يكون من خلال مقترحاتٍ ستضرب صيغة الكيان التاريخي الذي إحتفل بمئويته الأولى في أصعب الظروف وأقساها. المخرج يكون بالبحث الجدي في سبل تطوير الصيغة الراهنة من خلال تجاوز الطائفيّة السياسيّة والبحث المعمق في كيفيّة تحقيق المساواة الحقيقيّة بين المواطنين وفي إسقاط الممر الطائفي الإلزامي للمواطن نحو دولته. ثمّة مقترحات محددة نص عليها إتفاق الطائف في طليعتها إنشاء مجلس الشيوخ وتحرير المجلس النيابي من التمثيل الطائفي. قد لا يعجب هذا الطرح مرجعيّات معينّة، ولكن لا بد من بداية ما في مكان ما.