الفئران تلعب الغمّيضة!

10 : 20

لعب العلماء الغميضة مع الفئران واكتشفوا أنها تحب هذه اللعبة وتتقنها!

نشرت مجلة "العلوم" تفاصيل هذه التجربة غير المألوفة، وسلّطت الضوء على أسلوب لعب متطور لدى هذه القوارض الصغيرة وآليات معقدة تنشط في أدمغتها. كما ألمحت إلى منافع هذا النوع من الألعاب من الناحية التطورية. يقول جيفري بورغدورف، عالِم أعصاب في جامعة "نورث وسترن" لم يشارك في الدراسة: "أظن أنها مساهمة علمية مهمة في هذا القطاع".

في العقود الأخيرة، بدأ العلماء يستكشفون الأسس العصبية والسلوكية والتطورية للعب.

اللعب مفهوم مربك لأنه لا يترافق مع هدف واضح، لكن تخوض جميع أنواع الحيوانات، بدءاً من الفئران وصولاً إلى الفِيَلة والبشر، هذه التجربة. يبدو أنه جزء أساسي من تطور الثدييات الصغيرة.

يقول مايكل بريشت، عالِم أعصاب في جامعة "هومبولت"- برلين: "تسهم هذه السلوكيات على الأرجح في تدريب الدماغ بطريقة ما. يفترض الكثيرون أن اللعب والمتعة ومختلف المظاهر المشابهة سلوكيات تافهة، لكنّي أظن أن العكس صحيح".

وثّق الباحثون أشكالاً بسيطة من اللعب لدى جميع أنواع الثدييات، منها فئران التجارب التي تبث على ما يبدو "قهقهات" فوق صوتية عند دغدغتها.

لكن تساءل بريشت وزملاؤه عن معلومة لاحظوها في قصص أصحاب الحيوانات الأليفة، حين قالوا إن الفئران لديهم قد تشارك في لعبة أكثر تعقيداً: الغميضة.

مقارنةً بلعبة المصارعة المرحة مثلاً، تُعتبر الغميضة أكثر تعقيداً لأنها تتطلب فهم القواعد، واستيعاب أدوار اللاعبين بكل وضوح، والقدرة على أداء أدوار متنوعة في مختلف الجولات.

علّم الباحثون ستة فئران مراهِقة من فئة الذكور أن تلعب نسخة ثنائية من الغميضة. فوزعوا حواجز ورقية وحاويات صغيرة في غرفة واسعة باعتبارها مخابئ للبشر والفئران على التوالي. بدأت اللعبة بوضع الفأر في صندوق صغير في وسط الغرفة.

إذا كان الفأر يؤدي دور "الباحث"، يختبئ العالِم ثم يفتح الصندوق عن بُعد. وإذا كان الفأر هو "المختبئ"، يربض العالِم بالقرب من الصندوق حين يظهر الفأر، ما يدفعه إلى الهرولة بحثاً عن مخبأ. تعلّمت الفئران الستة طريقة البحث، واستطاعت خمسة منها الاختباء أيضاً.

في التجارب النموذجية على الفئران، يقدم الباحثون الطعام كمكافأة. لكن كان بريشت وزملاؤه يعرفون أن الفئران تستطيع التدرب على مهام معقدة جداً مقابل حصولها على مكافأة غذائية بكل بساطة، لذا بحثوا عن استجابة طبيعية أخرى.

عندما كان العالِم يجد الفأر المختبئ أو يجده فأر آخر يؤدي دور الباحث، حصد الحيوان "مكافأة" على شكل تربيت أو دغدغة أو عراك ممتع قبل بدء جولة جديدة من اللعبة.

تبيّن في النهاية أن الفئران لاعبة متطورة بدرجة لافتة. إذا سمح لها العلماء باستراق النظر، كانت تستعمل الإشارات البصرية لإيجادهم بوتيرة أسرع. تحققت القوارض أيضاً من نقاط الاختباء التي استعملها الخصوم مراراً. وعند إيجاد البشر، كانت تصدر صيحات فوق صوتية تشبه صرخات الانتصار البشرية (قاسها العلماء لكن عجزوا عن سماعها).

لكن تغيرت استراتيجيات الفئران بالكامل حين أدت دور المختبئ، فراحت تُغيّر أماكن اختبائها وفضلت اللجوء إلى صناديق داكنة بدل الشفافة. كما أنها لم تصدر الأصوات نفسها عند اكتشاف مكانها، ما يعني أنها تبذل قصارى جهدها للبقاء في مخبئها.

حتى أنها كانت تطيل مدة اللعبة عبر الهرب من العلماء والاختباء مجدداً، ما أدى إلى تأخير التفاعل الاجتماعي. إنه مؤشر على ميل الفئران إلى اللعب للاستمتاع بوقتها بكل بساطة، من دون أن تنتظر مكافأة.

برزت مؤشرات أخرى على استمتاع الفئران، فقامت بـ"قفزات الفرح"، وأغاظت العلماء، وأطلقت صيحات كثيرة في بداية اللعبة ونهايتها. حتى أنها درّبت العلماء على طريقة اللعب بأسلوب معيّن.

اكتشف الباحثون أن الفئران تحب الاختباء، لكنها تركض لتفقد العالِم إذا لم يجدها بعد وقت طويل. لذا اضطر العلماء لتقصير مدة البحث عن القوارض المختبئة. حصل التدريب في الاتجاهين إذاً كما يقول بريشت.

حين كانت الفئران تلعب، سجّل الباحثون نشاطها الدماغي، استناداً إلى الخلايا العصبية الفردية في قشرة الفص الجبهي الإنسي المرتبطة بالقواعد والتقارب الاجتماعي. تبيّن أن الخلايا العصبية تتجاوب بطرق محددة مع مختلف مراحل اللعبة. نشطت خلية عصبية في القشرة الحوفية مثلاً في بداية جولات البحث حصراً، تزامناً مع تعليم الحيوان دوره في اللعبة.

توحي سرعة تعلّم القواعد وتطور أداء اللعب بأن الغميضة قد لا تكون مفهوماً غريباً للفئران. يظن بريشت أن هذا السلوك شائع في مملكة الحيوانات، لكن لم يتّضح بعد عدد الأجناس التي تجيده.

يضيف بريشت: "قد تكون الغميضة لعبة قديمة جداً. ربما تعود إلى 100 مليون سنة وليس آلاف السنين فقط. حتى أنها جزء من تجارب القوارض على الأرجح. اندهشنا فعلاً من براعتها في هذه اللعبة".

يعتبر بورغدورف من جهته أن القدرة على تعقب الخلايا العصبية الفردية في ظروف أكثر مرونة من التجارب المخبرية النموذجية المبنية على المكافآت شكّلت إنجازاً مبهراً: "يسمح لنا هذا النهج بدراسة الآلية العاطفية الأساسية على مستوى كل خلية عصبية فردية. لم نكن نستطيع فعل ذلك في السابق".

تظن بيغي مايسون، عالِمة أعصاب في جامعة شيكاغو لم تشارك في الدراسة، أن القياسات العصبية إنجاز مهم فعلاً، لكنها تعجبت بشكلٍ أساسي لأن الفئران لم تكتفِ بتعلّم الغميضة، بل استمتعت بها: "من المدهش أن تستمتع باللعبة لهذه الدرجة، وتسمح النتائج السلوكية برأيي بتطوير نطاق تفكيرنا".

لكن لماذا تشارك الفئران وحيوانات أخرى، لا سيما الشابة منها، في أشكال مختلفة من الألعاب البسيطة والمعقدة؟ من الأصعب أن يجيب الباحثون على هذا السؤال. ربما تساعد تلك الألعاب الحيوانات الصغيرة، مثل الفئران، على الاختباء من الحيوانات المفترسة. أو ربما تُعلّمها أسس التفاعل الاجتماعي.

طرحت مايسون أدلة مفادها أن القوارض التي لا تلعب في مراحل النمو الأولى لا تصبح طبيعية في سن الرشد، بل تبدو متوترة ولا تجيد اللعب مع الآخرين أو تربية صغارها: "يُدرّبها اللعب على مبدأ الأخذ والرد في التفاعلات الاجتماعية، وهو جزء حتمي من حياة كل حيوان في مرحلة معينة".

يضيف الباحثون أن الغميضة قد تصبح معياراً مفيداً لاختبار مهارات "نظرية العقل" لدى الفئران والبشر ورئيسيات أخرى، منها القدرة على فهم وجهات نظر الآخرين.

في مطلق الأحوال، كشفت نتائج الدراسة عن تعقيدات اللعب المدهشة والحيوانات التي تخوض هذه التجربة. لذا يدعو بريشت في النهاية إلى تقدير قدرتنا على اللعب بدرجة إضافية!


MISS 3