دماغك آلة عجيبة تحاول دوماً نسيان ما تعلّمته

10 : 10

Not sure. Young adult businessman have a doubt.
الذكريات تعكس ما نحن عليه كونها تُكوّن نظرتنا عن العالم وتساعدنا على توقّع الأحداث المرتقبة. طوال أكثر من قرن، سعى الباحثون إلى فهم طريقة تشكيل الذكريات ثم ترسيخها ليتم استرجاعها خلال الأيام أو الأسابيع أو حتى السنوات اللاحقة. لكن ربما اكتفى هؤلاء العلماء بالنظر إلى جزء من المشهد العام. لفهم كيفية استرجاع الذكريات، يجب أن ندرك أولاً مسار النسيان وأسبابه!

كشفت أبحاث متزايدة في العقد الماضي أن فقدان الذكريات ليس مساراً جامداً، بل إن النسيان آلية تنشط باستمرار داخل الدماغ على ما يبدو. بالنسبة إلى بعض الحيوانات، أو ربما جميعها، لا تتعلق الحالة الدماغية النموذجية بالتذكّر بل بالنسيان! لذا قد يسمح فهم تلك الحالة بتحقيق تقدم بارز لمعالجة حالات مثل القلق، واضطراب إجهاد ما بعد الصدمة، وحتى مرض الزهايمر.

يسأل أوليفر هاردت، عالِم نفس معرفي يدرس العلوم العصبية للذاكرة في جامعة "ماكجيل" في مونتريال، كندا: "ما قيمة الذاكرة من دون النسيان؟ يستحيل أن تكتسب أي قيمة! للتمتع بذاكرة فعالة، لا مفر من النسيان".

تكثر المعطيات المجهولة حول طريقة نشوء الذكريات والوصول إليها، وقد استهلكت هذه الألغاز وقت الباحثين في مجال الذاكرة منذ زمن بعيد. لكنهم غفلوا في المقابل عن مسار النسيان في الدماغ. يقول مايكل أندرسون الذي يدرس علم الأعصاب الإدراكي في جامعة "كامبريدج"، بريطانيا: "يبدو الإغفال عن هذا الجانب لافتاً. كل فصيلة لها ذاكرة تنسى! إنها حقيقة مثبتة ولا وجود لأي استثناءات. إذا استطاع أي كائن حي، بغض النظر عن بساطته، استخلاص الدروس من التجارب، يمكن أن تضيع تلك الدروس. على ضوء هذا الاستنتاج، من المدهش فعلاً أن يتعامل مجال العلوم العصبية مع النسيان كفكرة ثانوية".

لم يكن هذا الموضوع في طليعة المسائل التي فكّر بها رون ديفيس حين اكتشف أدلة على ظاهرة النسيان الناشط لدى ذباب الفاكهة في العام 2012. ديفيس هو عالِم أعصاب في معهد "سكريبز" للأبحاث في فلوريدا، وكان يدرس تعقيدات نشوء الذكريات في أجسام ذباب الفطر (شبكات كثيفة من الخلايا العصبية تُخزّن الذكريات الشمّية والمرتبطة بحواس أخرى في أدمغة الحشرات). كان يهتم بشكلٍ خاص بفهم تأثير الخلايا العصبية التي تنتج الدوبامين وتربط بين تلك الهياكل. يؤثر ناقل الدوبامين العصبي على تنظيم مجموعة سلوكيات في دماغ الحشرات، فافترض ديفيس أن هذا الناقل الكيماوي يؤدي دوراً في الذاكرة.

ثم اكتشف ديفيس أن الدوبامين أساسي للنسيان. فتعاون مع زملائه لحث الذباب المُعدّل وراثياً على الربط بين الصدمات الكهربائية وروائح محددة، ما سمح بتدريب الحشرات على تجنبها. ثم نشّطوا الخلايا العصبية الدوبامينية ولاحظوا أن الذباب نسي ذلك الرابط سريعاً. لكن أدت إعاقة تلك الخلايا نفسها إلى حفظ الذكريات. يبدو أنها كانت تنظّم طريقة التعبير عن الذكريات وتبث إشارة "النسيان".

استعمل بحث آخر تقنية سمحت للباحثين بمراقبة نشاط الخلايا العصبية لدى الذباب الحي، فأثبت أن تلك الخلايا الدوبامينية تنشط لفترات طويلة، في الذباب على الأقل. يقول ديفيس إن الدماغ يحاول دوماً نسيان أي معلومة سبق وتعلّمها.

من الذباب إلى القوارض

بعد بضع سنوات، توصّل هاردت إلى نتيجة مشابهة لدى الجرذان. كان يستكشف حينها ما يحصل في نقاط الاشتباك العصبي المرتبطة بتخزين الذكريات على المدى الطويل. يعرف الباحثون أن الذكريات تصبح مُشفّرة في دماغ الثدييات حين تزيد قوة الرابط بين الخلايا العصبية، وتتحدد تلك القوة بحسب مستوى نوع معيّن من المستقبلات الموجودة في نقطة الاشتباك العصبي. تُعرَف هذه المستقبلات باسم "أمبا" ولا بد من الحفاظ عليها لضمان استمرار الذكرى. لكن تكمن المشكلة برأي هاردت في عدم استقرار أي من تلك المستقبلات، بل إنها تدخل إلى نقطة الاشتباك العصبي وتخرج منها بشكلٍ متواصل وتتحرك خلال ساعات أو أيام".

أثبتت تجربة هاردت أن آلية متقنة تعزز باستمرار التعبير عن مستقبلات "أمبا" في نقاط الاشتباك العصبي، ومع ذلك لا مفر من نسيان بعض الذكريات. لذا افترض هاردت أن تلك المستقبلات قابلة للاستئصال، ما يعني أن النسيان عملية ناشطة. إذا كانت هذه الفكرة صحيحة، يُفترض أن يؤدي منع استئصال مستقبلات "أمبا" إلى تجنب النسيان. حين أعاق هاردت وزملاؤه الآلية الكامنة وراء اقتلاع مستقبِل "أمبا" من منطقة الحصين الدماغية لدى الجرذان، اكتشفوا كما كان متوقعاً أن القوارض مُنِعت من نسيان مواقع الأغراض. ولنسيان مسائل معيّنة، اضطر دماغ الجرذ على ما يبدو للقضاء على الروابط القائمة في نقطة الاشتباك العصبي مسبقاً. بالتالي، لا يمكن اعتبار النسيان خللاً في الذاكرة بل إنه جزء من وظائفها!

كذلك، اكتشف بول فرانكلاند، عالِم أعصاب في "مستشفى الأطفال المرضى" في تورونتو، كندا، أدلة مفادها أن الدماغ مُصمَّم كي ينسى.

لكن في تقرير نُشِر في العام 2014، توصّل الباحثون إلى نتيجة معاكسة: بدل تحسين ذكريات الحيوانات، كان تكثيف عملية تكوين الخلايا العصبية كفيلاً بجعل الفئران تنسى ذكريات إضافية. من وجهة نظر فرانكلاند، بدا هذا الاستنتاج متناقضاً في البداية، نظراً إلى الفرضية القائلة إن الخلايا العصبية الجديدة تشير إلى زيادة سعة الذاكرة وتحسين أدائها على الأرجح. لكنه يعتبر تلك النتيجة منطقية الآن: "حين تدخل الخلايا العصبية إلى منطقة الحصين في أدمغة الراشدين، تندمج مع دائرة قائمة وراسخة. وإذا راحت تلك الدائرة تُخزّن معلومة محددة وبدأت بتجديدها، ستزيد صعوبة الوصول إلى تلك المعلومة".

وبما أن الذكريات طويلة الأمد لا تتخزن في منطقة الحُصين الدماغية، لا تُعتبر طبيعتها الحيوية عيباً بل ميزة تطورت لتسهيل التعلّم. تتغير البيئة المحيطة باستمرار، لذا تضطر الحيوانات للتكيف مع الظروف الجديدة للبقاء على قيد الحياة، ويمكنها تحقيق هذا الهدف عبر السماح للمعلومات الجديدة بمحو المعلومات القديمة.

الطبيعة البشريةيظن الباحثون أن الدماغ البشري يعمل بالطريقة نفسها على الأرجح. يقول بليك ريتشاردز الذي يدرس الدوائر العصبية والتعلم الآلي في جامعة "تورونتو سكاربورو": "تنجم قدرتنا على تعميم التجارب الجديدة، ولو جزئياً، عن نزعة دماغنا إلى المشاركة في عملية نسيانٍ مدروسة". يفترض ريتشاردز أن قدرة الدماغ على النسيان قد تمنع أثر "فرط التخصيص": في مجال الذكاء الاصطناعي، يعني هذا المفهوم أن يكون النموذج الرياضي ممتازاً في مطابقة البيانات التي تَبَرْمَج لمعالجتها لدرجة أن يعجز عن توقع البيانات المقبلة.

كذلك، إذا أراد أي شخص تذكّر جميع تفاصيل حدث معيّن، مثل التعرض لهجوم كلب (ما يعني ألا تقتصر الذكرى على الحركة المفاجئة التي أخافت الكلب في الحديقة ودفعته إلى النباح والعض، بل تذكّر أذنَي الكلب المتدلّيتين ولون قميص صاحبه وزاوية الشمس في تلك اللحظة...)، سيصعب عليه أن يستفيد من تجربته في مواقف أخرى لتجنب التعرض للعض مستقبلاً. يضيف ريتشاردز: "إذا تخليتَ عن بعض التفاصيل لكنك احتفظتَ بالخلاصة النهائية، ستتمكن من استعمالها في ظروف جديدة. ربما يخوض الدماغ إذاً عملية نسيانٍ مدروسة لمنعنا من "فرط التخصيص" في تجاربنا".

محاولات النسيانمن خلال فهم مسار النسيان، من النواحي البيولوجية والنفسية والمعرفية، ربما يقترب أندرسون وباحثون آخرون من تحسين علاجات القلق وإجهاد ما بعد الصدمة وحتى الزهايمر.

يظن هاردت أن فهم مرض الزهايمر بدرجة إضافية ممكن باعتباره خللاً في النسيان وليس التذكّر. إذا كان النسيان جزءاً منظّماً وفطرياً من الذاكرة، من المنطقي برأيه أن يترافق اختلاله مع آثار سلبية. لذا يتساءل: "ماذا لو كانت المشكلة تتعلق بنسيان مفرط يخرج عن السيطرة ويمحو التفاصيل بما يفوق العتبة المسموح بها"؟

لا يزال هذا السؤال عالقاً. لكن بدأ عدد إضافي من الباحثين يحوّل تركيزه إلى طريقة النسيان في الدماغ ومسار التذكّر أيضاً. يقول أندرسون: "تزيد المعطيات التي تعتبر النسيان مجموعة من العمليات المستقلة، ولا بد من تمييزها عن تشفير الذكريات وترسيخها واسترجاعها. لقد ضمن المسار التطوري توازناً مثالياً بين منافع التذكّر والنسيان، ويرتكز ذلك التوازن على الاستمرارية وقوة التحمل، تزامناً مع التخلص من أي عناصر دخيلة".


MISS 3