علي الأمين

سبل وضع "الحراك الشـعبي" على سكّة التغيير الوطني؟

3 تموز 2021

02 : 00

ثورة 17 تشرين: لإعادة إحياء الحراك ووضعه على سكة التغيير

بمناسبة انعقاد مؤتمر "المؤتمر" في لبنان والذي يستضيف اكثر من مئة شخصية سياسية وناشط من الذين ساهموا في "انتفاضة 17 تشرين" ولا يزالون، للبحث في تقديم الحلول للأزمة القائمة وتشعّباتها، أقدّم هذه المقالة في سياق تفعيل نقاش يجب الا يتوقف، بالرغم من انني ساهمت في احدى جلساته والتي كانت حول رصد مجموعات الحراك وتشكيلاتها وأفق تكاملها. واتمنى ان يتحول "المؤتمر" مؤتمراً دائماً يستجيب للتحديات التي يمكن وصفها بالوجودية للبنان.

مرّ اكثر من سنة ونصف على الحراك الاحتجاجي الذي اجتاح العاصمة وأكثر المناطق اللبنانية. كانت الاستجابة الشعبية شبه عارمة، واستطاعت إرباك السلطة وأهل الحكم، إلا أنها لم تستطع الصمود أمام ترهيب قوى السلطة، وتحوّلت مع الزمن احتجاجات متفرّقة وموسمية، لا تجسّد حقيقة الكارثة والأزمة الفعلية في لبنان، وغابت غياباً شبه تام عن مجريات الأحداث، ما عدا الإطلالات الإعلامية لبعض رموز الحراك على وسائل الإعلام والتعبيرات الاحتجاجية التي تحفل بها الـ"سوشيل ميديا" ومحطات المحروقات اليوم.

ويمكن تسجيل عدة نقاط حول وضعية الحراك الحالية:

الأولى: عجز الحراك عن الإستمرار ومتابعة التصعيد في ممارسة الضغط لتحقيق المطلب الأساسي الذي رفع وهو: "كلن يعني كلن". فالحراك عانى من فقدان النفس الطويل، ومن الإستمرار بوتيرة قوية، بخلاف قوى السلطة التي اعتمدت النفس الطويل، وراهنت على عجزه عن الاستمرار والصمود.

الثانية: العجز عن توليد خطاب موحّد ومفهوم يعبّر عن خطورة المرحلة، ويرسم آفاق المرحلة القادمة، أي رؤية لا تكتفي بالاحتجاج والتعبير الغاضب، بل تضع لبنان على سكة التحول الجذري لتأسيس نظام علماني ديموقراطي، وباتجاه عقد اجتماعي جديد يقوم على الأفراد العقلاء الأحرار المتساوين، لا العقد بين الطوائف التي ألغت الفرد واختزلت الدولة معاً، وتحولت عن مضمونها الإيماني والاجتماعي الخالص لتنتج مراكز قوة وشبكة مصالح بداخلها وتعزز أشكال الاستبداد.

ظل خطاب الحراك في منطقة الاحتجاج، وظل خطاباً ضعيفاً أمام قوى السلطة، الأمر الذي ساهم في حدوث اختراقات داخل الحراك، بعضها أمني، والبعض الآخر حزبي وميلشيوي.

الثالثة: عدم تناغم قوى الاحتجاج، وظهور تناقض بينهم في تصوير المرحلة القادمة. فالحراك ضمّ كل محتجّ على النظام، لكنه لم يحقّق توافقاً بينهم حول الخطوات القادمة وحول آفاق ما بعد الحراك. بل تبين أن كثيراً من قوى الاحتجاج كانت بطريقة أو بأخرى موالية لقوى السلطة تحت عناوين نضالية فضفاضة، مثل المقاومة والممانعة. بذلك كان حراكاً مؤسساً على السلب أي يعرف ما لا يريد، ولم يتأسس على الإيجاب أي معرفة أي لبنان يريد.

الرابعة: الإصرار على إبقاء الحراك في وضعيته الهلامية، أي إبقاؤه على عفويته في التعبير والتصعيد والتعبئة، الأمر الذي أنتج تناقضات في المواقف، وتبايناً في الشعارات والتعبيرات، واختلافات جذرية في التحرك على الأرض. هي وضعية أعطت لكل منطقة فسحتها الخاصة في التعبير، لكن مواجهة قوى سلطة بتكوين تنظيمي صارم وحديدي، كانت تحتاج في حدّها الأدنى تناغماً، وقوة تنسيق، ووحدة توجّه، وإيقاعاً موحداً ليحقق الحراك أغراضه على مستوى المناطق بل على مستوى لبنان كوحدة. كان المطلوب لا جمع الإرادات بل توليد إرادة موحدة. وهذا يستدعي العمل على إنشاء هيكلية تنظيمية وتنسيقية، تتسم بالمرونة من جهة بإعطاء المناطق المتعددة خصوصيتها في التعبير والتعبئة من جهة، وتحقق وحدة وسياقاً واحداً متناغماً في المواجهة من جهة أخرى.

الخامسة: عجز الحراك عن تأمين حاضن اجتماعي قوي. إذ لوحظ تردد اجتماعي في تلبية الحراك، الذي بدأ قوياً ومندفعاً، ثم تحول تردّداً وانكفاء في مرحلة لاحقة، بعد ظهور عجز واضح من الحراك عن تحقيق نتائج ملموسة وفي الحدّ من تغوّل السلطة، أو منعها من تحقيق أجندتها. إذ تبين أنه بعد استقالة حكومة سعد الحريري، استعادت السلطة زمام المبادرة، فأنتجت حكومة على قياسها، ظاهرها يستجيب لمطلب الحراك وباطنها مؤسس على إرادة قوى السلطة. بل ظهر في مرحلة لاحقة حصول تسويات ومساومات بين قوى السلطة وبعض وجوه الحراك، الأمر الذي قلل إلى حدّ بعيد من زخم الحراك وفعاليته.

بالتالي حصل نوع من توجّس اجتماعي عام من جدوى حراك كهذا، بخاصة مع انهيار العملة اللبنانية، وغياب حراك كهذا في ظل الكارثة الاقتصادية التي نعيشها، واكتفاء أكثر تجمّعاتها بالاستنكار وإصدار بيانات.

هل هنالك أفق لإعادة إحياء هذا الحراك ووضعه على سكة التغيير؟ هذا مرهون بستة أمور أساسية:

أولها: الإنتباه إلى أنّ واقع لبنان وصل إلى الطريق المسدود، ليس على مستوى الحياة السياسية، وإنما على مستوى أصل الكيان. فلبنان تعدّى مرحلة ما نسمّيه بالإصلاح، بل تعدّى مرحلة تنفيذ بنود الطائف الذي دونت نصوصه بروحية إنهاء الحرب الأهلية، لا بروحية تأسيس معالم وطن حقيقي.

كما لا بد للتفكير من أن يذهب إلى ما وراء معالجة أزمة راهنة، إلى التأسيس لوطن استفاد من تجاربه التاريخية، واتخاذ الموقف الحاسم المدعوم برؤية رشيدة للدفع باتجاه صيغة كيان جديد، وطبيعة نظام مختلف.

ثانيها: تأمين العمق الاجتماعي الذي يوفر زخماً قوياً للحراك. هذا يستدعي فتح قنوات التواصل مع مكونات المجتمع اللبناني، واستثمار لحظة الفشل الحالية التي وصلت إليها السلطة للتعبير عن آلام الناس ووجعهم. التواصل المستمرّ مع الناس مطلوب والظهور الدائم ضرورة لتعرف الناس قيمة الحراك وتقترب منه أكثر.

ثالثها: ظهور قيادات ذات صدقية وطنية وأخلاقية وذات قدرات وصفات قيادية، يعمد الحراك إلى إبرازها، لا لغرض شخصنة الحراك، بل لأن الرمزية الشخصية والقيادية تلعب دوراً كبيراً في الاستقطاب وفي توحيد الجهود.

رابعها: لا بد للحراك من جسم موحد. لم يعد بالإمكان تركه على عفويته وصبيانية أدائه، وحتى غوغائية طرحه في أكثر الأحيان. الخصم شرس ومنظّم ويراقب ويخترق، ولا بد من مواجهة تتوازن مع وحشية وشراسة قوى السلطة.

خامسها: لا بد للحراك من لغة مفهومة، خطاب واضح وموحّد، رؤية ترسم آفاق مستقبل لا تدور في دائرة الحاضر وتفصيلاته المعقدة.

سادسها، وهي الأهم: ضرورة الإعداد للحظة انطلاق مفصلية لا عودة فيها مهما كانت الأكلاف والتضحيات لإنقاذ الوطن، بدل تركه يحتضر ويتداعى. هي لحظة تبدأ بإعلان العصيان المدني والدعوة إلى استرجاع الشرعية المغتصبة من الممسكين بزمام الحكم، بعدما خانوا الأمانة والوديعة.