عيسى مخلوف

وقفة من باريس

العالم بين العِلم والخُرافة

3 تموز 2021

02 : 00

ورد في الملحق العلمي لصحيفة "لوموند" هذا الأسبوع، نقلاً عن مجلة "طبيعة" العلميّة البريطانيّة الرصينة، أنّ العصفور الصغير المسمّى "أبو الحنّ"، المعروف في لبنان والعالم العربي، يتفاعل مع المجال المغناطيسي ويُتقن ميكانيكا الكمّ، النظريّة المختصّة بالجُسَيمات المتناهية الصِّغَر والتي غيّرت الصورة القديمة للكون. وإذا كان "لا أحد يفهم ميكانيكا الكمّ"، بحسب عالم الفيزياء الأميركي الحائز جائزة نوبل للفيزياء ريتشارد فيليبس فاينمن، فإنّ العصفور الذي أتينا على ذكره يمتلك في عينيه بَرمَجة كاملة هي بمثابة بوصلة تساعده في هجراته الليليّة السنويّة بين أوروبا الشماليّة وأفريقيا، ما يؤكّد أنّ العصافير، حتى لو كانت عمياء، لا تُضَيِّع طريقها.

ومثلما تتمتّع الطيور بجهاز تَحَكُّم تقيس من خلاله الضوء والمسافات، يطالعنا الحسّ الهندسيّ الفطريّ عند بعض الحيوانات الأخرى، كالنّحل والنّمل والأسماك. هناك سمكة تُدعى "غْلُوبْ"، أو سمكة البخّاخ الصّغيرة، طولها 12 سنتيمتراً وتُطلَق عليها صفة "مهندسة البحار". ذَكَرُ هذا النّوع من السّمك الّذي يكتنفه الغموض يذهب إلى أعماق البحر وينحت في الرمل، ببطنه وزعانفه، طوال أيّام، دائرة هندسيّة مُتقَنة المقاييس تتخلّلها دوائر تحيط بالمركز وتشبه (في أشكالها المُضَلَّعة وتضاريسها وفروعها) زجاجَ الكاتدرائيّات المُعَشَّق. حين يُنهي صُنعَها، يزيّن تَعَرُّجاتها بالأصداف. الهدف من هذه المنحوتة المدهشة إغواءُ الأنثى واجتذابها، وتهيئة الجوّ المناسب للاحتفاظ ببيضها. هذا ما يقوله لنا العلم أيضاً. أمّا غاية الطّبيعة، من وراء هذه المسرحيّة المكتملة الفصول، فربّما تكمن في تأمين استمراريّة النَّسل.

العلم فتح عيناً واسعة على العالم المرئيّ واللامرئيّ وحقّق اختراقات كبيرة في جميع الحقول والميادين لم يعد العالم بعدها كما كان قبلها. منذ العام 2015، أحدثت الكواشف الحديثة ثورة في الفيزياء الفلكيّة من خلال الوصول إلى ظواهر لم تكن مرئيّة قبل اليوم. ولقد التُقطَت، في العام 2019، أوّل صورة في التاريخ لثقب أسود، هذا النجم الكثيف الذي يمنع أيّ مادّة، وحتى أيّ ضوء، من الإفلات من جاذبيّته.

مرّت قرون من الزمن قبل الكشف عن المعنى الحقيقي للثورة الكوبرنيكيّة (نسبة إلى العالِم البولوني كوبرنيكوس الذي عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر وأحدثت نظرياته ثورة حقيقية في تاريخ العلوم). نحن نعيش الآن، ومنذ عشرات السنين فقط، في عالم محكوم بالعلم والتقنيات التي تستمدّ حقيقتها الموضوعيّة من قوانين كونيّة عالميّة تختلف عن القوانين الأرضيّة و"الطبيعيّة". تقول المفكّرة والفيلسوفة الألمانيّة حنّا آرنت إنّ التقدّم العلمي والتكنولوجي فتح العالم على إمكانات هائلة، لكنه ضاعف في الوقت نفسه قدرة البشر على الهدم لدرجة أصبح في مقدور الإنسان أن يدمّر الحياة على الأرض، بل من المحتمل أن يصبح بإمكاننا تدمير الأرض نفسها. مقابل ذلك، نحن نعرف كيف ننتج عناصر جديدة لم تكن موجودة في الطبيعة. ولا نستطيع فقط التكهُّن بعلاقات الكُتلة والطاقة وهويّتهما العميقة، وإنما أيضاً نستطيع أن نحوّل الكُتلة إلى طاقة أو الإشعاعات إلى مادّة، وبدأنا نجعل الفضاء مأهولاً. ونأمل أن نكون قادرين، في مستقبل قريب نسبيّاً، على اكتشاف ما كنا نعتبره السرّ الأعظم الذي يتعذّر اختراقه، "سرّ الطبيعة المقدّس"، وخلق أو إعادة خلق معجزة الحياة.

وتختم آرنت بالقول: "هناك هوّة سحيقة بين آبائنا وبيننا". هذا الكلام لا ينطبق على مجتمعات لا يزال أبناؤها يعيشون في النقل والتكرار والاجترار، جيلاً بعد جيل، ويفكّرون كما كان يفكّر أجدادهم منذ مئات السنين، خارج العالم الذي يتغيّر، ومعه شروط الحياة الإنسانيّة بشكل عام.

بعد أسابيع أو أشهر من الآن، سينتهي الوباء الذي أصاب العالم، وسينتهي الحَجْر، غير أنّ ثمّة شعوباً كانت محجورة قبل الحَجْر، وستظلّ على حالها بعده، ليس فقط بسبب ظروف موضوعية ومصالح خارجيّة، بل أيضاً بسبب الظروف الذاتية لدول يحكمها الاستبداد الذي يتعاطى مع المواطنين كرهائن ويضاعف العنف والتطرّف وحدّة التشدّد الديني. وهذا التشدّد يتسلّح بالخرافة ويسجن الإنسان في فهمٍ مريض للحياة والعالم، فهو يرفض الاختلاف وينبذ العلم ويؤكّد دونيّة المرأة ويُحِلّ زواج القاصرات ويتساءل إن كانت الموسيقى حلالاً أم حراماً، ويتخبّط في متاهات لم يوجد لها مثيل حتّى في العصور الحجريّة البائدة.


MISS 3