كومفورت إيرو

ذكرى عاشرة كئيبة لتأسيس جنوب السودان

24 تموز 2021

المصدر: The Atlantic

02 : 00

منذ عقد من الزمن، راح عشرات آلاف الناس المبتهجين في جنوب السودان يغنون ويرقصون في العاصمة جوبا احتفالاً باستقلال البلد عن السودان، فيما وصل موكب من الشخصيات الأجنبية المرموقة من الصين والولايات المتحدة والأمم المتحدة للتعهد بدعم البلد مالياً. بعد سنوات من الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب الأهلية السودانية، أطول صراع شهدته أفريقيا، طغت أجواء من التفاؤل بشكل عام. في النهاية، خالف الرئيس السوداني عمر البشير توقعات المشككين واعترف بخسارة ثلث أراضيه ومصدر الثروات النفطية الهائلة في بلده.

قد تتغير ظروف كثيرة خلال عقد واحد. اليوم، يتجه جنوب السودان إلى الفشل. تخبّط هذا البلد خلال السنوات الأولى بعد استقلاله بسبب اندلاع حرب أهلية مدمّرة أسفرت عن مقتل 400 ألف شخص وتهجير أربعة ملايين آخرين، أي ما يساوي ثلث السكان. ثم فرض اتفاق سلام هش في العام 2018 استراحة قصيرة. يعاني الملايين من الجوع المزمن وأعمال العنف المستفحلة على يد ميليشيات محلية تستهدف الأرياف، وبدأت حركة تمرد جديدة تتوسع في الجنوب. تطرح هذه البداية الدموية معضلة هائلة على الولايات المتحدة والجهات المانحة الغربية الأخرى التي هاجمت قادة جنوب السودان واتّهمتهم بنهب ثروات البلد النفطية مع أنهم يدينون بمليارات الدولارات للخارج مقابل المساعدات التي تلقاها البلد لإنقاذ حياة الناس.

لكن لم يخسر البلد كل شيء بعد. رغم احتمال تجدّد حرب شاملة، يملك قادة جنوب السودان وشركاؤهم الخارجيون فرصة قيّمة لِعَكس أخطاء الماضي وفرض أسسٍ تضمن ترسيخ السلام في البلد. لتغيير الوضع الراهن، يجب أن يُركزوا على العامل الحقيقي المسؤول عن فشل ولادة جنوب السودان، أي السياسة الداخلية المتصدعة. يبدو البلد منقسماً وهشاً لدرجة أن يعجز عن الصمود من دون ميثاق سياسي يضمن شكلاً توافقياً من الحُكم. لا يزال عقد هذا النوع من الاتفاقيات ممكناً، حتى لو ترافقت هذه العملية مع التخلي عن بنية جنوب السودان الدستورية.

أبرز الأخطاء المرتكبة


تشبه قصة فشل جنوب السودان في أول عقدٍ على نشوئه تجارب فاشلة أخرى في بناء الأوطان. بالغ القادة السياسيون الجدد والقادة الخارجيون الذين يدعمون استقلال البلد في تبسيط السياسة المحلية، فكانوا ساذجين حين اقتنعوا بقدرة الحلول التقنية على معالجة التصدعات السياسية العميقة وفشلوا في تخيّل أسوأ السيناريوات المحتملة، حتى أنهم لم يتوقعوا حصولها أصلاً. اتكلت النخبة الحاكمة في جنوب السودان على مستشارين أجانب وعمال إغاثة قدّموا لهم خرائط طريق تقنية، لكنهم أهملوا في المقابل أهمية التفاوض على تسوية سياسية قد تُمهّد لإرساء سلام دائم.

عملياً، لم تكن الخطة الأصلية تهدف إلى منح البلد استقلاله. طوال عقود، حاولت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" المتمردة إسقاط النظام في الخرطوم. كانت تحظى بدعم إريتريا وإثيوبيا وأوغندا، وقد تلقت هذه الجهات كلها مساعدات عسكرية سخية من إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون. رحّبت واشنطن بأي جهود تهدف إلى إضعاف نظام الزعيم السوداني عمر البشير الذي استعان بمقاتلين إسلاميين لمهاجمة الأميركيين. في المرحلة اللاحقة، أجبرت إدارة جورج بوش الإبن البشير على قبول اتفاق سلام في العام 2005 لأنه كان يخشى أن تستهدفه "الحرب الأميركية على الإرهاب"، ويَعِد ذلك الاتفاق جنوب السودان بتنظيم تصويت حول انفصال الإقليم خلال ست سنوات. مهّدت وفاة زعيم المتمردين، جون غارانغ، في حادثة تحطم مروحية بعد ستة أشهر فقط على عقد اتفاق السلام لوصول خَلَفه سالفا كير إلى السلطة وتبنّيه ذلك التوجه بدعمٍ من الحلفاء الدوليين الذين كانوا يخشون أن يقضي الخيار البديل بتجدّد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب.

لكن على الطريق المؤدي إلى الاستقلال، فشلت النخبة الحاكمة في جنوب السودان وشركاؤها الخارجيون في معالجة الأسس السياسية الهشة هناك، فكلفوا مجموعة صغيرة من وكالات الإغاثة وبعثة كبيرة تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام بمهمة بناء الدولة. تعاونت العاصمة جوبا مع مسؤولين ركّزوا على أهداف تنموية، وتراجع في المقابل التركيز على الانقسامات السياسية والعرقية العميقة في البلد. استبعد معظم الديبلوماسيين والمسؤولين في جنوب السودان احتمال حصول صراعات على السلطة، وتمنوا أن تُموّل حكومة كير حاجات البلد التنموية الهائلة عبر عائدات النفط. كذلك، تجاهلت الخطط التي وضعها جنوب السودان والولايات المتحدة والأمم المتحدة لبناء مستقبل الدولة مخاطر اندلاع حرب أهلية، فشعرت هذه الجهات بالقلق من أعمال العنف الطائفية المحلية والمناوشات الحدودية بين السودان وجنوب السودان. لم يلاحظ الكثيرون أن كير وحلفاءه تخلوا سريعاً عن وعودهم بإطلاق عملية شاملة لإقرار الدستور، فتركزت السلطة بيد الرئيس.

بلد منقسم


على نطاق أوسع، تبيّن أن أعضاء النخبة الحاكمة في جنوب السودان أغفلوا عن صراع السلطة جماعياً. يعتبر الخطاب الطاغي في البلد أن الصراع السوداني قائم بين الجنوب "الإفريقي" والشمال "العربي"، لكن كان سكان الجنوب قد تقاتلوا في ما بينهم طوال عقود أيضاً. على مر سنوات طويلة من التمرد والحرب، قاومت فصائل عرقية جنوبية كثيرة جماعة المتمردين الأساسية التي يقودها غارانغ. سرعان ما تفاقمت هذه الأزمات بدل أن تتلاشى، ثم عادت للظهور تزامناً مع انهيار جنوب السودان. وراء هذه الانقسامات كلها، ثمة غياب شبه تام للدولة. جنوب السودان أرض بحجم فرنسا تقريباً، وهي مدججة بالسلاح وتفتقر إلى طرقات سليمة وأهم المؤسسات الناشطة، ولا وجود لجيش متماسك فيها.

كان كير يعرف أن حصد الإجماع بين الحكّام وناخبيهم عامل أساسي لإرساء السلام في جنوب السودان، وقد أقنع الخصوم القدامى بالحفاظ على التضامن الجنوبي مع اقتراب موعد الاستقلال. لكن بعد انفصال الإقليم، تخلى كير سريعاً عن التزاماته المرتبطة بتشكيل حكومة لها قاعدة عريضة واستولى بنفسه على السلطة وعائدات النفط. لم يكن مفاجئاً إذاً أن تعود الانقسامات المريرة إلى الواجهة بعد مرور سنتين فقط، فتأجج الانقسام بين الحزب الحاكم والجيش بسبب صراعهما على السلطة، ما أدى إلى إغراق البلد في صراع امتد على سنوات لأسباب عرقية وسياسية.

طوال سنوات، وجد الوسطاء الدوليون صعوبة في إقناع كير وزعيم المتمردين ريك ماشار، خصم كير الأساسي، بإنهاء الحرب الأهلية. ثم أدى اتفاق مبرم في العام 2018، بضغطٍ من المجتمع الدولي، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في العام 2020. لكن لم تتحقق معظم بنود ذلك الاتفاق بعد، إذ تحتدم أعمال العنف في أنحاء الأرياف وتلوح المجاعة في أفق بعض المناطق. كذلك، كان الحفاظ على وقف إطلاق النار يتطلب جهوداً ديبلوماسية متواصلة من الجهات الخارجية، بما في ذلك النروج وبريطانيا والولايات المتحدة. يظن الكثيرون أن الانتخابات العامة، التي تشمل استطلاعاً رئاسياً قد يضع كير في مواجهةٍ مع ماشار، لن تحصل في الوقت المحدد. وحتى لو نجح البلد في إجراء الانتخابات، قد تتخذ المرحلة التمهيدية لهذا الاستحقاق منحىً عنيفاً ويتراجع احتمال أن يتقبل الخاسرون النتائج.

إلــــــــى أيــــــــن؟


يشعر سكان جنوب السودان بسخط عارم بسبب نزعة قادتهم إلى التقاتل وتحقيق مصالحهم الخاصة. وحتى الطبقة السياسية المنقسمة في البلد اعترفت أخيراً بأن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر. في غضون ذلك، يعترف المسؤولون الخارجيون صراحةً بأنهم افتقروا إلى استراتيجية فعالة منذ أن قضت الحرب على خططهم السابقة. تحتاج الأطراف التي تتابع محاولات مساعدة جنوب السودان إلى خطة لمنع تجدد أي صراع شامل، وتخفيف تداعيات العنف والجوع على السكان المدنيين، وفتح المجال أمام تحسين مستقبل الناس.

وراء الفساد في جنوب السودان، يكمن نظام سياسي مركزي يجعل الرابح يستولي على كل شيء. تتأثر سياسة البلد أيضاً بالصراع على منصب الرئاسة. يستطيع الرئيس أن يطرد حكام الولايات حين يشاء ويتمتع عملياً بسيطرة شبه تامة على أموال البلد. في دولة معرّضة للانهيار بسبب الانقسامات الطائفية والعرقية، زادت قناعة سكان جنوب السودان بأن القوة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لتقاسم السلطة أو حماية الذات.

لكن يحتاج البلد فعلياً إلى سياسة إجماع. يتعارض هذا الهدف بشدة مع نزعة كير الاستبدادية ونموذج الأغلبية الرئاسية الذي ينصّ عليه الدستور. في ظل هذا الوضع، يجب أن يبدأ المسؤولون في جنوب السودان بالاتفاق على شكلٍ من اللامركزية.


MISS 3