كوتاني تيتسو

سلوك روسيا المخرّب في البحر الأسود

26 تموز 2021

المصدر: The Diplomat

02 : 01

وفق تصريح صادر عن وزارة الدفاع الروسية في 23 حزيران، أقدمت المدمّرة التابعة للبحرية الملكية البريطانية "إتش إم إس ديفندر" التي كانت تتجه نحو جنوب شبه جزيرة القرم على اختراق الحدود، ما دفع سفينة من خفر السواحل الروسي (هو جزء من خدمة حرس الحدود) إلى إطلاق طلقات تحذيرية. كذلك، ألقت طائرة حربية مجموعة من الذخائر في محاولة منها لحث المدمّرة البريطانية على تغيير مسارها. أكدت وزارة الدفاع البريطانية من جهتها على أنها استعملت حق المرور البريء في "المياه الإقليمية الأوكرانية" بموجب القانون الدولي، لكنها أنكرت حصول أي طلقات تحذيرية أو رمي الذخائر من الجو.

يطرح الطرفان إذاً قصتَين متناقضتَين. لكن يمكن استنتاج سلسلة من الأحداث بناءً على بعض المعلومات العامة. كانت مدمرة "ديفندر" تتجه من مرفأ "أوديسا" الأوكراني إلى "باتومي" في جورجيا. ثم دخلت في "مخطط فصل حركة المرور" المُستعمل دولياً في جنوب شبه جزيرة القرم واقتربت من تلك المنطقة موقتاً وأصبحت على بُعد 10 أميال بحرية من الجنوب. كان أحد مراسلي قناة "بي بي سي" على متن تلك المدمّرة وقد لاحظ أن سفينتين من خفر السواحل الروسي كانتا تتبعانها. أصدرت السفينتان التحذير التالي: "إذا لم تغيّروا مساركم، سنفتح عليكم النار"! ثم سُمِع صوت إطلاق نار. في المرحلة اللاحقة، حلّقت حوالى 20 طائرة عسكرية روسية فوق ذلك الموقع. تكشف الصور التي نشرتها روسيا أن إطلاق النار حصل ضمن النطاق المرئي للمدمّرة في الأفق، لكن لم تسقط أي ذخائر في طريقها. ثم غيّرت "ديفندر" مسارها موقتاً للتهرب من سفن خفر السواحل الروسي التي كانت تقترب منها، لكنها عادت إلى مسارها الأصلي لاحقاً وابتعدت عن شبه جزيرة القرم.

تريد موسكو أن تنشر معلومات مغلوطة عن تلك الحادثة، فتعطي انطباعاً خاطئاً مفاده أن تحذيرها هو الذي أخرج القوات البحرية الملكية من المياه الإقليمية قبالة شبه جزيرة القرم. كانت روسيا قد ضمّت هذه الأرض الأوكرانية في العام 2014، لكن لم تعترف بريطانيا ولا المجتمع الدولي بهذه الخطوة. استغلت روسيا تلك الحادثة إذاً للتأكيد على سيادتها وحجم صلاحياتها في شبه جزيرة القرم. يتعلق عامل مؤثر آخر على الأرجح بوقوع تلك الحادثة بالقرب من ميناء "سيفاستوبول"، أي القاعدة الأساسية لأسطول البحر الأسود التابع لروسيا.

تبقى مسألة تحديد الجهة التي تملك شبه جزيرة القرم جزءاً من خلفية هذه الأحداث، لكن يتعلق جوهر المشكلة الحقيقي بالمبادئ التي تختارها روسيا من القانون الدولي لإعاقة مسار مدمّرة تابعة للقوات البحرية الملكية. وقعت حادثة مماثلة بين القوات البحرية الأميركية والبحرية السوفياتية السابقة في المنطقة نفسها في العام 1988. في تلك الفترة، حذر الاتحاد السوفياتي من شن هجوم محتمل إذا اخترق الأميركيون المياه الإقليمية السوفياتية، وأخرجت سفينتان تابعتان للبحرية السوفياتية سفينتَين من البحرية الأميركية بعد استعمالهما حق المرور البريء على مسافة غير بعيدة من ميناء "سيفاستوبول".

غداة تلك الحادثة، عقدت الولايات المتحدة محادثات مع الاتحاد السوفياتي وأعلن الطرفان عن تفسير موحّد لحق المرور البريء في السنة اللاحقة. ارتكز البلدان على المادة الثالثة من "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" التي لم تكن سارية المفعول بعد، وأكدا على حق جميع السفن، بما في ذلك السفن الحربية، بالمرور البريء في المياه الإقليمية (المادة 17)، ما يعني عدم الحاجة إلى إعطاء إشعار مسبق أو أخذ الإذن، بل يجب أن تلتزم جميع الأطراف بمخططات فصل حركة المرور التي تُحددها الدولة الساحلية. كذلك، طرح البلدان تعريفاً لمفهوم المرور البريء (المادة 19)، وأكدا على ضرورة أن تتجاوب السفن مع أسئلة الدولة الساحلية حول هدف الملاحة. من حق الدولة الساحلية أيضاً أن تدافع عن نفسها ضد أي مرور غير بريء (المادة 25)، وقد يُطلَب من السفينة الحربية أن تغادر إذا لم يكن مرورها بريئاً (المادة 30). لكن يجب أن تُحَلّ المشكلة دوماً بالوسائل الديبلوماسية إذا رفضت السفينة الحربية تنفيذ هذا الطلب.

تزعم موســـكو حتى الآن أنها تلتزم بهذا التفسير، لكن من الواضح أن تحركاتها هذه المرة تتعارض معه. تلمح روسيا إلى حصول تصرفات بريطانية استفزازية وتدّعي أن البريطانيين لم يتجاوبوا مع التحذير الروسي حول اختراق المياه الإقليمية. في المقابل، يقول البريطانيون إن سفن خفر السواحل الروسي أبلغتهم بأنها ستنفذ تدريبات بالذخائر الحية في منطقة مجاورة، ثم جرت اتصالات رسمية عدة في المرحلة اللاحقة. باختصار، يطرح الفريقان ادعاءات متناقضة حول ما حصل.

أصدرت السلطات الروسية في 14 نيسان 2021 إشعاراً يقضي بتعليق حق المرور البريء للسفن الحربية الخارجية في المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم، بما في ذلك المنطقة المثيرة للجدل، طوال ستة أشهر. لم تفسّر روسيا الأساس القانوني لهذا القرار، لكن تهدف هذه الخطوة على الأرجح إلى منع القوات البحرية التابعة لدول حلف الناتو من المرور بنظام "مخطط فصل حركة المرور" في المياه الواقعة بالقرب من ميناء "سيفاستوبول"، علماً أن أوكرانيا كانت قد أنشأت هذا النظام قبل ضم شبه جزيرة القرم بموجب قواعد "المنظمة البحرية الدولية". وبحسب وثائق سرية حصلت عليها قناة "بي بي سي" من وزارة الدفاع البريطانية، سعت الوزارة إلى إبقاء "مخطط فصل حركة المرور" جزءاً من المياه الإقليمية الأوكرانية عبر السماح لمدمّرة "ديفندر" بالمرور به.



عملياً، لا يعترف القانون الدولي بالقيود المفروضة على المرور البريء لفترات مطولة مثل مهلة الستة أشهر. تنص المادة 25 من القسم الثالث في "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" على حق الدولة الساحلية بتعليق المرور البريء للسفن الأجنبية موقتاً حفاظاً على سلامتها. لكن لا يمكن تطبيق هذا البند على سفن معينة دون سواها. من غير المنطقي أن تُعتبر مدة الستة أشهر موقتة، حتى أن منع مرور السفن الحربية بحد ذاته يخترق بنود "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار". إذا تقبّلت الأطراف المعنية هذا الوضع، ستحصل الدول الساحلية على صلاحية إنشاء مناطق يُمنَع المرور فيها عشوائياً.

ينتهك هذا القرار أيضاً القانون الداخلي الذي ادّعت روسيا استعماله للجوء إلى القوة العسكرية وإطلاق طلقات تحذيرية لطرد مدمّرة البحرية الملكية من مياهها الإقليمية. ينطبق مبدأ الحصانة السيادية على السفن الحربية، ما يعني أن الدولة الساحلية تستطيع أن تطلب من السفينة الحربية المغادرة، إلا في حالة الدفاع عن النفس، ثم يمكنها تقديم احتجاج ديبلوماسي إذا لم يتحقق ما تريده. لو اعتبرت مدمّرة "ديفندر" الطلقات التحذيرية تحركاً عسكرياً غير قانوني، كانت لتكسب الحق بالدفاع عن نفسها بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. أعلن نائب وزير الخارجية الروسي أن ما حصل كان مجرّد تحذير، لكن ستطلق روسيا هجوماً مباشراً في المرة المقبلة إذا أصرّت بريطانيا على رفض الاعتراف بالمياه الإقليمية الروسية. فيما يُصعّد حلف الناتو نشاطاته في البحر الأسود راهناً، أصبح التفسير الذي تعطيه روسيا للقانون الداخلي خطيراً جداً. بعد حادثة مدمّرة "ديفندر"، عمد الجيش الروسي إلى إعاقة عمليات القوات البحرية الهولندية والأميركية في البحر الأسود أيضاً.

في غضون ذلك، أطلقت الصين تحركات مماثلة في بحر الصين الجنوبي، فأعاقت عمليات حرية الملاحة الأميركية ثم أعلنت أنها "أبعدت" السفن الحربية الأميركية. من المعروف أن مدمّرة "ديفندر" تنتمي إلى مجموعة "كاريير سترايك" البريطانية ومن المنتظر أن تزور شمال شرق آسيا في رحلتها المقبلة عن طريق بحر الصين الجنوبي. يرتفع احتمال أن تعيق الصين مسار القوات البحرية الملكية حينها.

وفق القانون الصيني المحلي، يجب أن تحصل السفن الحربية الأجنبية على إذن مسبق كي تتمكن من استعمال حق المرور البريء. أصبحت المادة 17 من قانون خفر السواحل الصيني سارية المفعول في 1 شباط 2021. هي تدعو إلى استعمال القوة ضد السفن الحربية الأجنبية إذا لم يكن مرورها بريئاً، بما يشبه رد خفر السواحل الروسي على مدمرة "ديفندر". في الوقت نفسه، تنص المادة 25 من قانون خفر السواحل الصيني على إمكانية إنشاء مناطق موقتة من الإنذارات البحرية لمنع مرور السفن، ما يزيد احتمال أن تتبنى الصين تدابير مشابهة للقرار الروسي بتعليق المرور البريء قبالة شبه جزيرة القرم.

كان الاتحاد السوفياتي يشارك تفسيراته لحقوق الملاحة مع قوى بحرية أخرى. أما اليوم، فتستعمل روسيا والصين تفسيراتهما الخاصة والمتشابهة لقانون البحار. في ظل زيادة عدائية الصين وروسيا في المياه المحيطة بهما، يُفترض أن يقلق المجتمع الدولي من هذه التفسيرات الرجعية. في البحر الأسود أو في بحر الصين الجنوبي، يجب أن تكون القواعد البحرية عالمية. ويجب أن تتابع الدول المعتادة على الملاحة البحرية في آسيا وأوروبا وأماكن أخرى جهودها الحثيثة للحفاظ على القواعد البحرية العالمية بالوسائل الديبلوماسية ومتابعة العمليات المبنية على حرية الملاحة.