"كورونا" لم يؤثّر على الصحة النفسية بقدر ما توقّعنا!

02 : 00

تكلّم كثيرون عن الأزمة النفسية التي سببها فيروس كورونا على مستوى العالم. ترسّخت هذه الفكرة بسرعة توازي إيقاع انتشار الفيروس. في ربيع العام 2020، حذرت مقالات متلاحقة من وباء نفسي يلوح في الأفق. في هذا السياق، ذكر علماء عياديون وعلماء نفس بحثيون أن وباء كورونا أنتج حالات قد تُسبب أزمة نفسية حقيقية، ما يعني إعاقة حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية بطريقة مفاجئة وواسعة النطاق، وزيادة تعاسة الملايين بسبب فقدان أحبائهم، وتعريض أكثر الأشخاص ضعفاً لمشاكل طويلة الأمد. نتيجةً لذلك، بدا وكأن تراجع الراحة والعافية بات حتمياً على مستوى العالم. أمام هذا الوضع، قررنا الانضمام إلى فريق عمل معني بالصحة النفسية بتكليفٍ من مجلة "ذا لانسيت" لتقييم آثار الوباء النفسية.

حين راجعنا أفضل البيانات المتاحة، لاحظنا أن أعضاء جماعات معينة، بما في ذلك أشخاص يواجهون مشاكل مادية، يعيشون معاناة كبرى وقادرة على تغيير حياتهم. لكن حين نظرنا إلى سكان العالم ككل، تفاجأنا لأننا لم نرصد مظاهر المعاناة المطولة التي كنا نتوقعها. راجعنا حوالى ألف دراسة كانت قد حللت مئات آلاف الناس من مئة دولة تقريباً. قاس هذا البحث متغيرات عدة ترتبط بالصحة النفسية، منها القلق، والاكتئاب، وحالات الانتحار، ومستوى الرضا عن الحياة. ركزنا على نوعين مترابطين من الأدلة: استطلاعات حللت جماعات متشابهة من الناس قبل الوباء وخلاله، ودراسات تعقبت المجموعة نفسها من الأفراد مع مرور الوقت. لا يُعتبر أي نوع من الدراسات مثالياً. لكن حين ظهرت الاستنتاجات نفسها في مجموعتَي الأدلة، زادت ثقتنا بأن الاستنتاج الذي توصلنا إليه حقيقي.

في بداية انتشار الوباء، رصد فريقنا الاستنتاجات التي نقلتها وسائل الإعلام: ارتفعت مستويات القلق والاكتئاب بدرجة كبيرة، فضلاً عن الاضطراب النفسي العام، وارتفع في الوقت نفسه عدد المصابين بأشكال عيادية من تلك الحالات. في الولايات المتحدة والنروج مثلاً، زادت حالات الاكتئاب ثلاثة أضعاف في شهرَي آذار ونيسان من العام 2020 مقارنةً بالمعدلات المسجلة في السنوات السابقة. وفي دراسة شملت أكثر من 50 ألف شخص من جميع مناطق المملكة المتحدة، سجّل 27% من المشاركين مستويات بارزة عيادياً من الاضطرابات النفسية في أولى مراحل كورونا مقارنةً بـ19% قبل تفشي الوباء.

لكن برزت نتيجة لافتة بحلول فصل الصيف: بدأت مستويات الاكتئاب والقلق والمعاناة تتراجع. حتى أن بعض البيانات كشف أن حجم المعاناة النفسية الإجمالية عاد إلى مستويات ما قبل الوباء في بداية صيف 2020.

في المرحلة اللاحقة، تابعنا التعمق في البيانات بحثاً عن أي نتائج غير طبيعية. كان جزء من قواعد البيانات يشتق مثلاً من دول غنية، لذا اضطررنا لتوسيع نطاقها الجغرافي. فكرنا أيضاً بأن الوباء أضعف على الأرجح رضا الناس عن حياتهم حتى لو لم يُسبب لهم معاناة قوية وطويلة الأمد. انطلاقاً من هذه الفكرة، حلل أعضاء من فريقنا أكبر قاعدة بيانات متاحة عن هذا الموضوع ومأخوذة من "استطلاع غالوب العالمي". يطلب هذا الاستطلاع من الناس أن يقيّموا حياتهم على مقياس مؤلف من 10 نقاط: يشير المعدل 10 إلى أفضل حياة ممكنة، بينما يشير المعدل صفر إلى أسوأ حياة. تجيب عينات تمثيلية من معظم دول العالم على هذا السؤال كل سنة، ما يسمح لنا بمقارنة نتائج العام 2020 بالسنوات السابقة. عند النظر إلى العالم ككل، لم نرصد أي أثر لتراجع الرضا عن الحياة: قيّم الناس في العام 2020 حياتهم بمعدل 5.57، وهو مستوى مشابه للسنوات السابقة.

على صعيد آخر، تساءلنا أيضاً إذا كانت تلك الاستطلاعات لا تصل إلى أكثر الأشخاص تضرراً. بشكل عام، لا يميل الفرد الذي يعيش معاناة حقيقية في حياته إلى الرد على اتصالات الباحثين. لكن لم ترصد بيانات مأخوذة من مصادر حكومية رسمية في 21 بلداً أي زيادة واضحة في حالات الانتحار بين نيسان وتموز 2020، مقارنةً بالسنوات السابقة. حتى أن معدلات الانتحار تراجعت قليلاً في بعض الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة. توقعت ولاية كاليفورنيا مثلاً تسجيل 1429 حالة انتحار خلال هذه الفترة بناءً على بيانات السنوات السابقة، لكنها سجلت فعلياً 1280 حالة.

لقد تفاجأنا بقدرة الكثيرين على تجاوز التحديات النفسية التي فرضها الوباء. لفهم هذه الأنماط بأفضل الطرق، راجعنا استنتاجاً تقليدياً في علم النفس: يقال إن الناس أكثر قوة مما يظنون. يفترض الكثيرون أن أحداث الحياة السلبية، مثل خسارة العمل أو فقدان الشريك، ستكون مدمرة طوال أشهر أو سنوات. لكن حين يختبر الناس هذا النوع من الخسائر، تميل معاناتهم إلى التلاشي بوتيرة أسرع مما يتصورون.

تنطبق قدرة تحمّل الناس للأحداث الصعبة على صدمات أخرى أيضاً، منها التعايش مع الحرب أو تحمّل إصابة خطيرة. قد تنتج هذه الحوادث مستوىً مرتفعاً من المعاناة ولا يمكن الاستخفاف بالألم الذي يعاني منه الكثيرون. لكن تثبت دراسات متلاحقة أن معظم الناجين يتعافون بسرعة أو لا يصابون بتدهور كبير في صحتهم النفسية.

يحمل البشر ما يسمّيه بعض الباحثين "جهاز مناعة نفسياً"، وهو عبارة عن مجموعة من القدرات المعرفية التي تسمح لنا بالاستفادة من أسوأ الظروف. بعد الانفصال عن الحبيب مثلاً، قد يُركّز الناس على عاداته المزعجة أو يستمتعون بأوقات الفراغ المستجدة.

كان الوباء الأخير بمثابة اختبار للمناعة النفسية العالمية التي تبدو أقوى مما يتوقع الجميع. حين تلاشت مصادر المتعة المألوفة في ربيع العام 2020، أصبح الناس أكثر ميلاً إلى الابتكار. فراحوا يشاركون في أعياد ميلاد متنقلة، وجماعات لتقديم المساعدة المتبادلة، وأمسيات افتراضية مع أصدقاء قدامى، وهتافات ليلية لتشجيع العاملين في قطاع الرعاية الصحية. حتى أن البعض أصبح بارعاً في تحضير المخبوزات، واكتشف الكثيرون أفضل طريقة لإعادة إحياء علاقاتهم الاجتماعية. في مجموعات كثيرة من البيانات الكبرى، سجلت مستويات الوحدة زيادة بسيطة، فقد ذكر 13.8% من الراشدين في الولايات المتحدة أنهم يشعرون بالوحدة دوماً أو في معظم الأحيان في نيسان 2020، مقارنةً بـ11% في ربيع العام 2018.

لكن يُفترض ألا تلغي هذه النزعات والمعدلات العامة الصراعات الحقيقية التي واجهها عدد كبير من الناس في آخر 17 شهراً. قد تكون تلك المعاناة على شكل ألم شديد أو خسارة مؤلمة أو مشاكل مادية. على سبيل المثال، تصل الزيادة في عدد الأميركيين الذين عبّروا عن شعورهم بالوحدة في الربيع الماضي إلى 2.8%، أي ما يساوي 7 ملايين شخص. وعلى غرار جوانب عدة من وباء كورونا، لم تتوزع التداعيات النفسية للفيروس بطريقة متساوية في كل مكان. في مرحلة سابقة، سجّلت فئات من السكان، بما في ذلك النساء وأهالي الأولاد الصغار، زيادة بارزة في مستوى المعاناة النفسية العامة. ومع تطور الوباء، أصابت مشاكل نفسية دائمة، ولو بدرجات متفاوتة، أشخاصاً كانوا يواجهون أصلاً مصاعب مادية، وأفراداً أصيبوا بفيروس "كوفيد-19"، وآخرين كانوا يتعايشون مع اضطرابات جسدية ونفسية قبل انتشار الوباء. لكنّ قوة تحمّل الناس عموماً لا تلغي مسؤولية القادة بتقديم دعم ملموس إلى كل من تحمّلوا أسوأ المعاناة وأصبحوا أكثر عرضة للمخاطر المستمرة وتسهيل وصولهم إلى خدمات الصحة النفسية. لكنّ قوة التحمل المدهشة التي تمتّع بها معظم الناس في وجه التغيرات المفاجئة التي سببها وباء كورونا تحمل دروساً مهمة أيضاً. هي تُعلّمنا أن الناس يستطيعون تحمّل التغيرات الموقتة في أسلوب حياتهم أكثر مما افترض بعض صانعي السياسة، فتكيفوا مثلاً مع العمل من المنزل، وأبدوا استعدادهم للتخلي عن السفر، حتى أنهم عزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي.

عند النظر إلى التحديات المقبلة التي سيواجهها العالم، بما في ذلك أي وباء مستقبلي محتمل، يجب أن نتذكر هذا الدرس الذي تعلّمناه بأصعب الطرق: البشر ليسوا ضحايا جامدين أمام التغيير، بل إنهم يحافظون على راحتهم وعافيتهم بطريقة ناشطة. يُفترض أن تدفعنا هذه المعلومة إلى إحداث التغيرات الشائكة التي تفرضها علينا مجتمعاتنا أحياناً، حتى لو اضطررنا في الوقت نفسه لدعم الأفراد والجماعات الأكثر تضرراً.


MISS 3