المحامي الدكتور إبراهيم أسامة العرب

النقيب خلف وانتفاضة المحامين الكبرى

19 آب 2021

02 : 00

أهِي هشاشة مؤسساتنا في نظر الجمهور، أم جو التشكيك الذي ينتابه حيال سير تلك المؤسسات، أم خشيته من أن تكون السلطة قد خلقت جوّاً من الاضطهاد الذي نعاني منه؟ أيّاً كان السبب، فإنّ ثمة واقعاً هو أنّ اللبنانيين يشعرون بالحذر حيال ما يتّصل بحرياتهم الأساسية، وباتوا يتساءلون ولو ضمناً عن جدوى الضمانة التي يوفّرها لهم القضاء.

لذا ليس غريباً أن تكون قامت إعتداءات بمناسبة موجة الاعتقالات التي طالت بعض المحامين، واستمرت في ظروف ضبابية، خصوصاً أنّ أحداً من المسؤولين السياسيين أو القضاة لم يقف في صفّ المحامين، ويشجب ما يتعرّضون له من ظلم واضطهاد؛ ووحده نقيب المحامين الدكتور ملحم خلف، مشكوراً، تصدّى لهذه الحملة الظالمة، ووقف وقفة شجاعة بوجه هذه الاعتداءات الشرسة، مطلقاً اضراباً مفتوحاً للمحامين لكي يرغم القضاء على الاستجابة لمطالبهم.

وهكذا أصبح النقيب خلف مقصداً ومرجعاً لجميع المحامين المظلومين، خصوصاً عند حصول أي خلل يهدّد العلاقات بينهم وبين الضابطة العدلية والقضاء، لا سيما أنه يتحلّى بالمبادئ الأخلاقية السامية وبرباطة الجأش والتجرّد والحياد في إطار إدراكه السليم لدوره المميّز في صون وحدة المحامين بدافع من الإقتناع والمسؤولية، حتى أصبح رمزاً نقابياً كبيراً.

واليوم بات الإضراب المفتوح في مصاف الأولويات، وعلى قدم المساواة مع حق المعارضة وحرية الصحافة. وليس أدلّ على ذلك، سوى الدور الرادع والضابط الذي ينبغي على النقابة أن تتولاه في مجتمع مفرط في اعتداءاته على المواطنين، وأكثر ميلاً لاحترام القضاة من المحامين. لا سيما أنّ القضاء الجزائي لم ينصف المحامين المعتدى عليهم، بالرغم من تدخّل النقابة وممارستها كافة الضغوط الممكنة باتجاه تحقيق العدالة.

وإزاء ما يمكن أن تقع فيه السلطة وأجهزتها من شطط في المجتمع، تبرز صعوبة في لجم تكرّر هذه الاعتداءات. ولذلك كانت لانتفاضة المحامين الكبرى الكلمة الفصل في هذا المضمار، وأكثر تأثيراً من السلطة الثالثة في الدولة. ولئن كان لبنان خارج دول العالم الأول، وغير قادر على أن يحذو حذوها في حمل لواء الديموقراطية السياسية والاجتماعية، أو أن يختصر بقفزة واحدة المسافة التي تفصله عنها، إلا أن القانون يكرّس مبدأ حصانة المحامي، بحيث لا يغدو ضرباً من ضروب الخيال معاملة المحامي باحترام والتوقف عن ضربه وإهانته وإذلاله. والقضاة في المقابل، عليهم أن ينصفوا المحامين، ويؤّمنوا لهم الضمانات اللازمة للحفاظ على كرامتهم وحقوقهم القانونية. وليس من يتجاسر على مناقشة أنّ هذا الأمر متلازم مع جوهر النظام الديموقراطي منذ ولادته، أي منذ قرنين.

نحن والقضاء يجب أن نكمّل بعضنا البعض، فنحن محكومون بحسن التعامل في ما بيننا، ولا تكتمل رسالة العدالة إلا إذا كانت العلاقة بين المحامي والقضاء على أحسن وجه. ومن هنا نجد حرص النقيب خلف على الندّية في العلاقة بين القضاء والمحاماة، وإصراره على وجوب إنصاف المحامين مهما كلّف الأمر. وعند تحقق ذلك فقط يقتنع المواطنون بأن الحقوق مصانة والحريات محفوظة، وأنّ المحاكم تصدر أحكاماً ولا تؤدّي خدمات، وأن الحكم بين الناس رسالة، وهي مقدّسة. لا سيما وأننا، كما علينا أن نحافظ على كرامة القاضي، فعلى الأخير أن يحافظ على كراماتنا، لأنه من خلال المحافظة على كرامة بعضنا بعضاً تتعزّز الثقة بالعدالة، وأي خلل يصيب هذه العلاقة، من شأنه أن يزعزع الثقة بالعدالة، وهذا الأمر مرفوض كلياً.

من ناحية أخرى، فإنّ حصانة المحامي مرتبطة بالنظام العام، وهي ملك مجلس النقابة، وليست ملكاً للمحامي وحده.

كما أنّ مجلس النقابة لا يتعرّض أصلاً لأساس النزاع، وإنما يقدّر وجود أو عدم وجود كيديـة أو تعسّف في الملاحقة، لكــي لا نقع بالازدواجــية حينما يصبح القاضي هو الخصم والحكم. ولذلك مخطئ من يعتقد أنه إذا كان الفعل المنســوب إلى محامٍ ناشئاً عن المهنة أو بمعرضهـــا، فإنّ ذلك يعنـــي أن مجلس النقابة سيرفض إعطاء الإذن، إذ على العكس، يقوم مجلس النقابة بتقدير عناصر جدّية الفعل المنسوب للمحامي، ويرى إذا ما كانت الملاحقة لها طابع كيدي وتعسفي أم لا، فإذا كان لها هذا الطابع حجب الإذن، وإذا لم يكن لها منحه. كما أن قرار هذا المجلس قابل للإستئناف أمام محكمة الاستئناف المدنية الناظرة بالقرارات النقابية، والتي تفسخ القرار إذا ما رأت بأنّ المجلس قد أخطأ في تعليله بعدم إعطاء الإذن.

ومن خلال الإصرار على تكريس المفهوم الصحيح لنص المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، نجح النقيب خلف بحفظ كرامة المحامين، ناهيك عن أنّه لم ينفك طوال فترة عمله النقابي الطويل عن تقديم يد العون والنصح والمساعدة والإرشاد للمحامين. كيف لا، وهو صاحب الوعي النقابي والمهني الذي لا يتزعزع، وقوّة وإرادة تسترها رباطة جأش تامة. وبشيء من الفطرة، استطاع دوماً أنْ يحمي الحرية عندما تكون مهدورة، وأنْ يكون من الباحثين بصدق عن حقوق الضعفاء والمظلومين، من خلال مسعاه في إضرام شعلة الأمل في لبنان الغد، من أجل مستقبل أفضل.

إنّ تاريخ البشرية يشهد بأنّ المحامين اللامعين كان لهم في كثير من بلدان العالم دور الريادة في قيادة شعوبهم عن جدارة، نحو الإستقلال والبناء والرفعة والكرامة، أمثال المحامي المهاتما غاندي زعيم الشعب الهندي، الذي خاض نضالاً مريراً تحت ظروف صعبة وقاسية ضدّ الاستعمار آنذاك، حتى تمكّن بالنهاية من نيل الإستقلال لوطنه الهند؛ وأمثال داعي الحقوق المدنية الأميركي مارتن لوثر كينغ، الذي ضحّى بحياته من أجل المساواة وتشريع الحقوق المدنية للسود في الولايات المتّحدة الاميركية حتى تكلّلت جهوده بالنجاح. والنقيب خلف يدخل التاريخ اليوم، بوصفه أول نقيب يطلق انتفاضة كبرى بوجه القضاء، ويتصدّى ببسالة لجميع الإغراءات. ولذلك فإنه تحوّل مثالاً حصّنته سجاياه ونبله ضدّ نشوة السلطة، ومرجعاً يحتذى به في الوطنية والأخلاق.

وأخيراً، يبقى أنْ نكبّر مواقف النقيب خلف الجريئة مهنياً ونقابياً، والحاسمة في مجال المحافظة على مهنة المحاماة واستقلاليتها وسيادتها، وننوّه باستقلاليته التامة والتزامه النقابي والوطني المترفّع، ونأمل أن يعتبر الآخرون من سيرته العطرة وخصاله الحميدة فيتّعظوا ويقتدوا بها، حكاماً كانوا أم محكومين.


MISS 3