لم يعد شح البنزين يطارد اللبنانيين في حياتهم، بل إمتد الى ما بعد موتهم، والازمة الخانقة مصحوبة بطوابير الانتظار لساعات على محطات الوقود وبجشع التجار في السوق السوداء لم تراع حرمة الموتى في قصة ليست من نسج الخيال، اذ عانت عائلة جمال في صيدا صعوبة بالغة في نقل المتوفي الحاج عبد القادر محيي الدين جمال (70 عاماً) عبر سيارة نقل الموتى لدفنه في مقبرة صيدا الجديدة في سيروب كما جرت العادة، بعدما نفد البنزين ولم تنجح محاولات سائقها التزود به بسبب الازدحام، من دون ان تكون له اولوية.
بغضب بالغ يقول ابن شقيق المتوفي فهد جمال لـ"نداء الوطن": "الى هنا وصلنا؟ لم اكن اتوقع ذلك يوماً، كأنه حلم او اشبه بخيال، لقد سقطت كل الخطوط الحمر امام عدم مراعاة حرمة الموتى"، قبل ان يضيف بتأفف: "اتصلنا بسيارة دفن الموتى لنقل عمي الى الجبانة تمهيداً لدفنه، ولكن المفاجأة ان السيارة اصبحت فارغة من البنزين ولم تُجدِ كل محاولات سائقها لتعبئتها امام طوابير الانتظار ولساعات من دون مراعاة مهمتها الانسانية، لنتبلغ لاحقاً ان الامر يبدو مستحيلاً". ثارت ثائرة فهد، وقد راودته كل الخيارات: المزيد من الانتظار، شراء من السوق السوداء ان وجد، او نقل عمه بسيارة عادية على رأس الاشهاد وجعل الامر قضية رأي عام. التقط انفاسه وهدّأ روعه تدريجياً وبدأت العائلة اتصالاتها مع جمعيات طبية واغاثية وفرق اسعافية التي اعتذر بعضها لذات السبب، فيما نجح الاتصال مع فريق الانقاذ الشعبي التابع لمؤسسة معروف سعد الاجتماعية لتولي المهمة... وباندفاعة، كونها انسانية بإمتياز ولا تحتمل الانتظار او تقصيراً او الاعذار، انجزت، لكن الم الفراق كان مضاعفاً.
ويقول فهد: "من واجبي طرح القضية على الاعلام، كي لا تتكرر المعاناة مع آخرين يفقدون احبة لهم، يكفي الحزن عليهم فكيف الحال في البحث عن سبيل لنقلهم الى الجبانة ودفنهم وهم تحت الصدمة. بدل المواساة ذهول يزيد الحزن ويدمي القلب ويدمع العين، يجب ان تكون هناك اولوية لسيارات فرق الاسعاف ونقل الموتى لانه قمة الشعور الانساني وعدمه يعني الانانية وموت الضمير ايضاً". ولم يقتصر الامر على ذلك، بل تفاجأ المشيعون باطفاء مولد مسجد المقبرة (الغفران) بسبب نفاد مادة المازوت ايضاً، في ظل طقس حار ورطوبة عالية، وقد اثار الموضوع ضجة في المدينة وسرعان ما تناقله ابناؤها من كبيرهم الى صغيرهم بحسرة ومرارة، وقد تدخّل صاحب محطات الكيلاني الحاج فادي الكيلاني وأمن البنزين لسيارة دفن الموتى ولمولد المسجد ومرافقه العامة.
وهذه الحادثة اعادت التذكير بالنداء الذي اطلقته الفرق الاسعافية من اجل ايجاد حلول سريعة لأزمة تزوّدها بالمحروقات، حيث ان المسعفين الذين اعتادوا على تلبية نداء استغاثة الناس باتوا اليوم يستغيثون. واعلنت الجمعية الطبية الإسلامية ومعها فرق الاسعاف والطوارئ التابعة لجمعية الحركة الشبابية للتنمية والسلام وفوج الدفاع المدني في جمعية الكشاف العربي، التوقف عن خدماتها الاسعافية وتلبية مهمات نقل المرضى من المستشفى إلى المنزل، وأطفأت صفّارات انذارها بسبب أزمة البنزين ووجهت نداء عاجلاً الى المسؤولين وأصحاب الأيادي البيض وبلدية صيدا برئيسها المهندس محمد السعودي وجميع السياسيين واصحاب النفوذ بالدعوة الى اجتماع عاجل ووضع خطة طوارئ للجمعيات الإسعافية في صيدا لتأمين المحروقات على السعر الرسمي والكمية المطلوبة لتشغيل سيارات الإسعاف، داعية الى اجتماع عاجل مع الجمعيات الإسعافية في صيدا للتباحث في هذه المستجدات.
توازياً، لم يمر يوم الانتظار الطويل على محطات الوقود لتعبئة خزانات السيارات بالبنزين بعد افتتاح الغالبية ابوابها من دون مشاكل متفرقة، اذ وقعت ثلاثة اشكالات، الاشكال الاول تخلله اطلاق نار من دون وقوع اصابات، والثاني عند الكورنيش البحري والثالث عند مستديرة القناية، وجرى تطويقهما سريعاً لاستكمال عملية التزود بالوقود. وأكد سائقون انهم ظلوا يومين عند ابواب المحطات ينتظرون افتتاحها طمعاً بالتزود بالبنزين، مع ارتفاع اسعار الصفيحة في السوق السوداء حيث فاق الـ 600 الف ليرة لبنانية، وفضّل كثير من سائقي التاكسي التوقف عن العمل وانتظار انفراج الازمة الخانقة.