نجاة رشدي

تغيُّر المناخ في لبنان: تهديدٌ مضاعف

1 أيلول 2021

02 : 00

على مدى السنوات القليلة الماضية، مرّ لبنان بتحديات هائلة لم تترك أي شريحة من مجتمعه سالمةً، بدءاً من الأزمة الاقتصادية، فجائحة "كوفيد - 19"، وانفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى الكوارث البيئية، والمأزق السياسي المستمرّ. لقد أصابت هذه التحديات البلاد بالشلل، وعرقلت مسار التنمية فيه، وقضت على قدرته على المواجهة. ويواجه لبنان حاليّاً تحدياً إضافيّاً ألا وهو تغيّر المناخ، الذي يشكّل تهديداً مضاعفاً من شأنه أن يزيد من حدّة المشاكل الراهنة، مما يتطلّب من الحكومة والشعب اللبناني اتّخاذ إجراءات حازمة، سواءً على المدى القصير أو في المستقبل.

على الصعيد الاقتصادي، يعاني لبنان منذ سنوات من الأزمات المالية التي أغرقت أكثر من نصف سكّانه في براثن الفقر وبات العديد منهم يعانون من الفقر المدقع، في حين تسبّبت هذه الأزمات بفقدان آخرين لمنازلهم، ومحو مدّخرات الكثيرين من بينهم. وقد قدّرت وزارة البيئة أنّ تغيّر المناخ سيسبّب انخفاضاً بنسبة 14 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للبنان بحلول العام 2040، لينخفض بعدها إلى 32 في المئة بحلول العام 2080.

وعلى الصعيد المعيشي، فمن المتوقّع أن يؤدّي تغيّر المناخ إلى ارتفاعٍ في درجات الحرارة وإلى شحّ موارد المياه، ممّا سيؤثّر سلباً على الإنتاج الزراعي وعلى سُبل عيش العديد من المجتمعات. وسيؤدي أيضاً هذا الارتفاع في الحرارة إلى زيادة الطلب على الطاقة، ممّا سيشكّل ضغطاً على الشركات والخدمات التي تكافح من أجل تلبية احتياجاتها من الطاقة.

أما على الصعيد الصحّي، فإنّ جائحة "كوفيد-19" وانفجار المرفأ الذي هزّ العاصمة بيروت في آب 2020، كشفا بشكل صارخ هشاشة النظام الصحّي في لبنان. كما سيؤدي تغيّر المناخ إلى ارتفاع في معدّلات الإصابة بالأمراض المعدية، وستؤول درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة الأمراض والوفيات، في حين سيؤدّي انخفاض الإنتاج الزراعي إلى زيادة سوء التغذية، ناهيك عن تزايد حدوث الظواهر المناخية الشديدة. كلّ هذا سيزيد من أعداد الوفيات السنوية أكثر ممّا هي عليه اليوم، وسيؤدي إلى إجهاد القدرات المُتاحة في المرافق الصحية والحضرية على المستوى الإقليمي.

وفي ما يخصّ موارد لبنان الطبيعية، فقد تأثّرت بشكل ملحوظ بتغيّر المناخ الذي بات واضحاً وجلياً. فحرائق الغابات التي اندلعت في شمال البلاد والتي أحرقت مساحات شاسعة من غابات الصنوبر قد تسبّبت بمقتل رجل إطفاء واحد على الأقل وأجبرت بعض السكّان على الفرار من منازلهم بحثاً عن مأوى. كما تجدر الإشارة إلى أنّ شهر تمّوز من العام الجاري كان الأكثر حرارةً على الإطلاق، فالحرائق التي اشتعلت طوال صيف العام 2021 في اليونان وإيطاليا والولايات المتحدة وكندا، هي خير دليلٍ على الواقع المستجدّ.

ولكن على الرغم من كلّ هذه التحديات، هناك ما يدعو إلى الأمل. لقد قامت الحكومة اللبنانية بخطوات ملحوظة في استجابتها لتغيّر المناخ، وقدّمت في العام 2021، مساهمتها الوطنية المحددة لتقليل الانبعاثات (NDC)، وهو ما يشكّل عنصراً رئيسيّاً لالتزام الدول عالمياً باتفاق باريس للمناخ. يمكن أن يساهم العمل المناخي المخطّط له ضمن إطار المساهمات المحددة وطنياً حتى العام 2030، وبشكلٍ ملحوظ، في تعافي لبنان المستدام من "كوفيد-19"، وفي معالجة التحديات الهيكلية التي تواجهه على صعيد الطاقة والنفايات والمياه، بالإضافة إلى خلق فرص العمل وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية. هذا ويقوم لبنان بتشريع خطّة التكيّف الوطنية التي توفر منصّة لإدماج سُبل التكيّف مع المناخ عبر هياكل وعمليات الحوكمة الكفيلة بتعزيز صمود المجتمعات اللبنانية.

وبهدف معالجة مجموعة الأزمات التي يمرّ بها لبنان، يتعيّن على الحكومة إعطاء الأولوية للتخطيط المناخي وإدارة مخاطر الكوارث وادراجها في جميع الإصلاحات المستقبليّة. وهذا الأمر من شأنه تسريع مسار لبنان نحو تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز حماية الاقتصاد وسبل العيش والنظم البيئية.

وعلى الحكومات أيضاً العمل مع مواطنيها وتمكينهم من القيام بدورهم. يجب أن تكون الخيارات والحوافز موجودة حتى يتّبع هؤلاء سلوكيات جديدة أكثر استدامة. فعلى سبيل المثال، إنّ تخفيض استهلاك الطاقة- والذي يتمّ من خلال اللجوء إلى خيارات سهلة وذات تكلفة منخفضة مثل استخدام الأجهزة التي توفّر الطاقة واعتماد المشي وركوب الدراجات واستخدام السيارات- يمكنه أن يساهم في تقليل الانبعاثات بصورةٍ ملحوظة. والأهمّ من ذلك، وفي ظلّ أزمة الوقود الراهنة التي تمرّ بها البلاد، لا بدّ من أن يشكّل الاستثمار في نظام نقل عام آمن وموثوق، مبادرةً اجتماعيّةً وبيئيّةً تحويليّةً.

إنّ تعزيز القدرة على الصّمود والتكيّف إنما هو أمرٌ بالغ الأهميّة. من هنا، يعدّ ضمان دعم المجتمعات الزراعية بالمعرفة والتكنولوجيا والتمويل بغية مواصلة توفير خيارات غذائية مستدامة، أولويةً أخرى لتجنّب أيّ أزمات إضافية.

وفي هذا السياق، يمكن لريادة الأعمال التي لطالما شكّلت الدعامة الأساسية للمجتمع اللبناني- أن تلعب دوراً جوهريّاً من خلال الابتكار التكنولوجي المستدام والمقاوم للمناخ. ويمثّل القطاع الخاص عنصراً هامّاً في إيجاد الحلول للعالم الحالي، وهذا الأمر ينطبق على تغيّر المناخ. بناءً عليه، وبغية دعم روّاد الأعمال، لا بدّ من إتاحة الفرص الكفيلة بتطوير الأفكار، وذلك من خلال حاضنات ومسرّعات الأعمال، والتدريب والتوجيه في الأعمال المرتبطة بالاستدامة، وتقديم حوافز مالية وضرائبيّة، وغيرها من أشكال الدعم.

وأخيراً، يجب التركيز على زيادة الوعي، سواء تمّ ذلك من خلال حملات تُعنى بتوعية المواطنين بشأن تغيّر المناخ وآثاره، بما في ذلك الدورات والبرامج البحثية في نظام التعليم العالي، أو من خلال إنشاء أنظمة الإنذار المبكر أو تعزيز تلك الموجودة بالأصل والتي تنبّه السكّان والمستجيبين من التهديدات الناتجة من الطقس المتطرّف. لذلك، لا بدّ من تطوير المعلومات والمعرفة ومشاركتها مع جميع شرائح المجتمع.

سيضيف التغيّر المناخي إلى التحديات العديدة التي يواجهها لبنان بعضاً من التعقيدات وانعدام اليقين. ولكن، ما هو مؤكّد، هي الحاجة إلى العمل والمشاركة الكاملة على جميع مستويات المجتمع، اليوم وفي المستقبل.




* نائبة المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، المنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الانسانية




MISS 3