فصل من كتاب "الدولة المستضعفة"

"اغتنِموا الفرصة... الآتي ليس لمصلحتكم"

02 : 00

اغتيال الوزير محمد شطح
بعد تسعة أشهر على تكليفه تشكيل الحكومة ومع اقتراب ولاية الرئيس ميشال سليمان من نهايتها فاتح سليمان الرئيس المكلف تمام سلام بأنه لا يريد أن تنتهي ولايته قبل تأليف الحكومة وبحثا في إمكانية تشكيل حكومة حيادية. كانت المعضلة في إيجاد شخصيات شيعية يمكن أن تقبل بالإنضمام إلى الحكومة في ظل معارضة "حزب الله" وحركة أمل لهذا الطرح خصوصا أن الأزمة كانت نشأت بين الرئيس سليمان و"حزب الله" بعد خطاب الرئيس في أول آب 2013 في عيد الجيش وإعلانه انتهاء معادلة الجيش والشعب والمقاومة والرد عليه بإطلاق عدد من الصواريخ في اتجاه القصر الجمهوري. تجاه هذا الأمر جاء من يبلغ الرئيس المكلف من قبل الرئيس نبيه بري أن ما يمكن أن يقدم عليه سيكون بمثابة ديناميت سيفجر البلد بينما كان هناك كلام مباشر من الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله بأن لا يلعب أحد هذه اللعبة معنا وأنه "ينصح بعدم تشكيل حكومة أمر واقع ونقطة على السطر". في 27 كانون الأول 2013 وسط هذا السجال تم اغتيال الوزير السابق محمد شطح. هذا الفصل من كتاب "الدولة المستضعفة" للأستاذ عبد الستار اللاز يروي تفاصيل هذه الأيام من محاولات الرئيس تمام سلام تأليف الحكومة مع الرئيس ميشال سليمان وهو الكتاب الذي يتناول ولاية سلام الحكومية التي بدأت باتصال هاتفي وانتهت بعد عامين ونصف على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية لتكون أول حكومة تدير الفراغ الرئاسي. (نداء الوطن)





بعد انتخاب حسن روحاني، الموصوف بالاعتدال، رئيساً للجمهورية الإيرانية، فُتح البحث بين واشنطن وطهران حول الملف النووي الإيراني.

التقى السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل، الرئيس المكلّف، ناقلاً إليه رسالة تأييد من الإدارة الأميركية، معتبراً أنّ الوقت حان لتشكيل حكومة. وفي وقت لاحق أبلغ رئيس الجمهورية سلام بعد استقباله هيل، أنّ الأميركيين "لا يمانعون في مشاركة الحزب إذا كان لا بدّ من ذلك".

هل هذا الموقف الأميركي الجديد، هو "التغيير" الذي وعد به محمد رعد؟

في تلك المرحلة كان من المبكّر جداً الإجابة عن هذا السؤال. لا بل إنّ ما تلا ذلك من أحداث، أظهر أن المواقف على حالها، لا بل ازدادت تعقيداً، خصوصاً بعد تراجع الرئيس باراك أوباما عن توجيه الضربة العسكرية إلى النظام السوري، الذي رأى فيه "حزب الله" وحلفاؤه انتصاراً لهم.

ففي التاسع والعشرين من تشرين الأول، وفي كلمة لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس مستشفى الرسول الأعظم، بدّد السيد حسن نصر الله كل الآمال في إمكان التوصل إلى حلّ، ورسم السقف الأعلى للأزمة الداخلية، حين حمل بلهجة غير مسبوقة على المملكة العربية السعودية، وخيّر قوى 14 آذار بين استمرار التعطيل أو القبول بشروطه قائلاً: "إنّ الزمن الآتي ليس لمصلحتكم".

أعلن نصر الله تمسكه بصيغة 9-9-6 (أي الثلث المعطّل لكل من قوى الثامن من آذار والرابع عشر من آذار وستة مقاعد للوسطيين)، قائلاً: "يمكن إذا تغيرت الظروف لن تقبل الناس بهذه الصيغة، لذلك اغتنموا الفرصة". وأضاف: "نحن أمام فرضيتين: الأولى هي الاستمرار في التعطيل الحالي... والثانية أنتم تواضعوا. نحن تواضعنا عندما قلنا إننا نقبل بـ9 لأن الـ9 أقل من الحجم التمثيلي الطبيعي لقوانا السياسية".

في اليوم التالي، التقى سلام الحريري في دارة الأخير في باريس. كان لقاءً مطوّلاً جرى فيه استعراض شامل للوضع في المنطقة وانعكاساته على لبنان، وقال فيه الحريري: "لن نعطيهم انتصاراً، ولن نسلمهم البلد ونتخلى عن نضال السنوات الثماني الماضية وعن المحكمة الدولية" (الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري).


كتاب "الدولة المستضعفة"



وفي بيروت كانت كتلة المستقبل تصف كلمة نصر الله بأنها "خطاب الاستعلاء والغرور" وترفض مشاركة "حزب الله" في الحكومة ما لم يسحب مقاتليه من سورية ويلتزم المبادئ التي أقرها أفرقاء الحوار في "إعلان بعبدا".

دخلت الأمور مساراً أصعب وأخطر بعد تفجيرين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت وأوقعا 23 ضحية، وأثارا المخاوف من انفلات للوضع الأمني ودخول لبنان في متاهة غير مسبوقة، ربطاً بالصراع الإقليمي الواسع.

في الخامس والعشرين من تشرين الثاني توصلت إيران إلى اتفاق تمهيدي مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا على كبح برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها والإفراج عن أرصدة مالية إيرانية مجمدة في المصارف الأميركية.

راح ديفيد هيل يجول على القيادات اللبنانية لشرح الاتفاق والدفاع عن موقف بلاده الذي لم تستسغه كثيراً قوى لبنانية اعتبرت أنه سيعزّز النزعة العدوانية والتوسّعية الإيرانية في المنطقة. ومما قاله للرئيس المكلّف إن "الاتفاق لن يكون على حساب لبنان الذي ما زلنا ملتزمين حمايته ودعم جيشه، وموقفنا من حزب الله لم يتغيّر". ثم أردف أن الاتفاق ربما شكّل فرصة لتشكيل حكومة في لبنان.

ولكن أيّ حكومة؟

سؤال قارب عمره تسعة أشهر، ولا جواب واحداً متفقاً عليه بعد.

عقد تمّام سلام ورئيس الجمهورية اجتماعاً جديداً لتقييم الوضع. أكّد الرئيس سليمان أنه لم يعد يستطيع الانتظار على هذه الحال حتى موعد انتهاء ولايته، وقال إنّه لا بد من تشكيل حكومة مهما كان الثمن، حتى ولو لم تنل الثقة، لأن ذلك أفضل من البقاء من دون حكومة. وقال سلام من جهته إنه لم يعد يستطيع الاستمرار في الدفع من رصيده الشخصي إلى ما لا نهاية، وإنه يفضّل تشكيل حكومة حيادية وإعلانها قبل عيدي الميلاد ورأس السنة.

توافق الرجلان على محاولة خوض هذه التجربة. عاد سلام إلى مسوّدات الصيغ الحكومية المختلفة التي سبق له أن أعدّها وشرع في بلورتها وتنقيحها.

من بين هذه الصيغ حكومة سياسية من 24 وزيراً يتوافق الرئيسان على أسماء أعضائها وتُعلن من دون العودة إلى القوى السياسية، ومنها أيضاً حكومة تكنوقراط من 14 شخصية وازنة.

لم يكن من السهل إيجاد شخصيات شيعية توافق على الانضمام إلى حكومة تكنوقراط يعاديها "حزب الله" وحركة أمل. تداول الرئيس المكلّف مع كثيرين من الأكاديميين والعاملين في الحقل العام، بعضهم اعتذر من البداية، والبعض الآخر وافق ثم تراجع تهيّباً لموقف الثنائي الشيعي. لكنّ سلام وجد في النهاية شخصيات وافقت على خوض المغامرة واختار منها ثلاثاً.

جاء من يبلغ الرئيس المكلّف نقلاً عن الرئيس نبيه برّي أنّ خيار الحكومة الحيادية الذي يفكر فيه هو بمثابة "ديناميت سيفجّر البلد".

هذا الرأي ليس جديداً، فقد سبق لفريق 8 آذار أن أبلغه رسائل من هذا النوع. ولكن ماذا يقول المعسكر الآخر؟

"إذا عزمت فتوكّل"، قال الرئيس السنيورة للرئيس المكلّف بعد اجتماع لقيادات "المستقبل" مع الحريري في باريس، مضيفاً أن "موقف الحاضرين جميعاً بمن فيهم سعد خَلُص إلى أن يتم المضيّ في تأليف الحكومة الحيادية، ونحن نثق بك وماضون معك في المواجهة".

في الحادي والعشرين من كانون الأول 2013، خرج السيد حسن نصر الله مرة جديدة بخطاب ناري حذر فيه من أن "لا أحد يلعب معنا" وقال إنه "ينصح بعدم تشكيل حكومة أمر واقع ونقطة على السطر".


الرئيس تمام سلام ومشقّة الحكم



مضمون هذا الكلام حمله بشكل ملطّف الثنائي الحاج حسين خليل، معاون السيد نصر الله، والوزير علي حسن خليل، معاون الرئيس برّي، إلى الرئيس المكلّف لإقناعة بحكومة 9-9-6، ولثنيه عمّا يفكر فيه. لم يخلُ الاجتماع من حدّة، خصوصاً عندما نقل حسين خليل إلى سلام عتباً من نصر الله على استخدامه تعبير "الاستكبار" أكثر من مرة في حديث عن "حزب الله".

أجاب سلام من دون مواربة: "بلّغ سماحته أنّ له عندي كلّ تقدير واحترام، لكن هناك ملاحظات أساسية على المنحى واللغة والموقف والخطاب الذي يستعمله. نعم هناك إملاء في قوله: هذا ما نريده ومن يعجبه فليعجبه ومن لا يعجبه لا يعجبه. نعم هذا نوع من الاستعلاء والاستكبار الذي لا يمكن نكرانه. عندما يلقي السيد خطاباته ويخرج عن النص ويتحمّس ويشطّ ويملي ويستعلي... هذا أسميه استكباراً.. .يعزّ عليّ أن أرى المقاومة في لبنان تنحو هذا المنحى. هذا الأسلوب في الإملاء يثير التشنّج عند الناس ويخلق اصطفافات ولا يساعد على الخروج من أزماتنا ومشاكلنا".

بعد ذلك "نصح" الحاج حسين خليل الرئيس المكلّف بعدم الإقدام على إعلان حكومة أمر واقع، معتبراً أنّ ذلك "صبٌّ للزيت على النار والبلد لا يحتمل ذلك" ويشكّل "دعسة ناقصة قد تفتح الأبواب مرة على شيء بالحسبان ومرة على شيء ليس بالحسبان".

وحصل ما لم يكن في الحسبان صبيحة السابع والعشرين من كانون الأول.

انفجار كبير في وسط بيروت على بعد مئات الأمتار من دارة سعد الحريري، يودي بحياة مستشاره الدبلوماسي السابق والخبير الاقتصادي المرموق ووزير المالية الأسبق الدكتور محمد شطح الذي كان يشكّل أحد وجوه النخبة اللبنانية المنفتحة والمعتدلة والمجرّبة.

كان للاغتيال وقع الصاعقة على اللبنانيين، وبخاصة على قوى 14 آذار التي قالت في بيان النعي إنّ "القاتل هو نفسه الذي يَلَغ في الدم السوري واللبناني... هو وحلفاؤه اللبنانيون يستهدف أبطال لبنان منذ تشرين الثاني 2004 إلى اليوم".


الرئيس ميشال سليمان والإختلاف مع "حزب الله"



كثرت التحليلات حول أسباب الانفجار. منها ما ربطه بمشروع كان يعمل عليه شطح من أجل تحييد لبنان، ومنها ما أقام صلة بينه وبين انطلاق أعمال المحكمة الدولية الناظرة في جريمة اغتيال رفيق الحريري في منتصف كانون الثاني.

وظهر رأي يقول إنّ الاغتيال تقف خلفه جهة تريد جرّ البلاد إلى الفتنة، ودفع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف إلى تشكيل حكومة حيادية لرفع منسوب الاحتقان والخلاف، بينما قال رأي آخر عكس ذلك تماماً، معتبراً أن الجريمة هي رسالة إلى سليمان وسلام لتحذيرهما من مغبّة تأليف أيّ حكومة حيادية، لأنّ أيّ حكومة من هذا النوع ستواجَه بالحديد والنار.

أيّاً كانت صحة هذه الفرضيات، فمما لا شكّ فيه أنّ اغتيال محمد شطح أدّى إلى قطع كلّ جسور التواصل السياسي ورفع منسوب الاحتقان والتشنّج وأعاد كلّ فريق إلى متراسه.

جاء من يحــاول إقناع تمّام ســـلام بالإفادة من الصدمة التي أحدثتها الجريمة والمسارعة إلى تشكيل حكومة حتى قبل تشييع جثمان شطح.. فرفض.

أبلغ محدّثه أنّه لم يعد ينوي التأخير في تأليف الحكومة، لكنه لن يفعل ذلك كرد فعل على الاغتيال.

التزم رئيس الجمهورية الموقف المتريث نفسه، خصوصاً أنّه لم يكن يريد أن يشوّش بالمسألة الحكومية على موضوع بالغ الأهمية كان العارفون به قلّة قليلة.

ففي يوم تشييع شطح، خرج سليمان بخطاب متلفز يعلن فيه أنّ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قرّر تقديم هبة إلى لبنان بقيمة ثلاثة مليارات دولار لشراء سلاح فرنسي بهدف دعم الجيش وجميع القوى والأجهزة الأمنية.

على الفور، اعتبرت قوى الثامن من آذار هذه الخطوة قراراً بتفجير البلاد. وقالت عبر إعلامها إنّ هذه المساعدة هي "أمر بالفتنة" ورشوة تقدمها السعودية مشروطة بتأليف حكومة أمر واقع لعزل "حزب الله" وفتح معركة معه في لبنان.

(يتبع غدا)


MISS 3