جورج بوعبدو

"الجحيم، رسالة إلى لارا" لأليس مغبغب...تجميل الجحيم اللبنانيّ بالفنّ

15 تشرين الثاني 2021

02 : 00

هي أليس مغبغب مؤلفة فيلم- معرض خارج عن المألوف حمل عنوان "الجحيم، رسالة إلى لارا" (Inferno, Lettre à Lara) عرض على الانترنت منذ فترة ليست بعيدة فنال ثناء وتقديراً من النقاد المحليين والاجانب. فكرة الفيلم المبتكر والاول من نوعه في لبنان فريدة ومستمدة من الحاجة؛ فهي ولتعذّر الاجتماع في مساحة فنية جغرافية حول أعمالٍ فنية لضرورات التباعد تنشئ تلك المساحة نفسها افتراضياً على شبكة الانترنت. وليس العمل مجرد مقاومة لانعكاسات الكوفيد- 19 الفنية؛ فرسالته مزدوجة؛ مقاومة الفن للانزواء القسري من جهة، ومقاومة الموت باحتفالية بالحياة من ناحية أخرى، عبر عرض أعمالٍ تشكيلية أنجزت بين العامين 1991 و2021، وتمحورت حول كارثة بيروت الكبرى، انفجار الرابع من آب المفجع والذي وقع ضحيته شعب ينوء منذ زمن بعيد تحت أهوال طبقة فاسدة مصرة على تشويه الوطن الحبيب.

يتوالى العرض التشكيلي مع رسالة تقرأها مغبغب مخاطبةً بها لارا، التي كانت في الثانية والاربعين من العمر حين دوّى انفجار بيروت في الرابع من آب 2020 فأدخلها في غيبوبةٍ تامة مستمرة حتى يومنا هذا. وليست لارا وحدها في الغيبوبة. ليست وحدها من، وفق مغبغب، دخلت في نوم عميق لم تستيقظ منه بعد؛ رغم كل الحب والصلوات والدعوات. ليست لارا وحدها في سباتٍ عميق بل نساء لبنان جميعاً؛ وهي تكتب لها هذه الرسالة تحديداً وتقرأها بصوتها الدافئ كي تخبرها بمفرداتها الصريحة بما حصل لهنّ، ليس منذ لحظة الانفجار في الرابع من آب 2020 فحسب؛ بل منذ العام 1975 أي منذ زمن بعيد حين شتتت الحرب العبثية أحلام كثيرين.



لا تتقبل مغبغب بتاتاً الانهيار الكبير الذي انزلق إليه الوطن. ترفض مؤسسة مهرجانات BAFF للأفلام وصاحبة غاليري مغبغب في بيروت نظرية الاستسلام للواقع المرير. تشدد بأنها لن تدع ارادتها تضعف مهما اشتدت المآسي. لن تدع القوى الظلامية تسلبها ارادتها للحياة وحبها لبيروت الجميلة وللوطن المذبوح من الوريد الى الوريد.

ولا تجد مغبغب حلاً للدوامة الحالية إلا بالخروج من الغيبوبة التي وقعنا فيها جميعاً. كيف السبيل الى ذلك؟ تبتسم لتجيب بنبرةٍ واثقة: "بالعمل على الذات أولاً. وللمرأة دور أساسي في هذه المسيرة فهي المتحكمة ببيتها ومصير أولادها وباستطاعتها حكماً أن تغيّر مسار الأمور إن أرادت ذلك". وهي لهذا السبب بالذات تطلب من لارا وعبرها من اللبنانيين جميعاً، العودة الى اليقظة والتغلّب على الغيبوبة القسرية التي فرضت عليهم بالرجوع الى بيروت وتاريخها الغني بإنجازات من ناضلوا لبناء بلد مزدهرٍ ومتألّق.

وتعتبر مغبغب أنّ خلاص المجتمع اللبناني يبدأ بالمرأة اللبنانية القادرة على إحداث التغيير في عقر دارها أولاً، وهي تدعو للرجوع الى انجازات ونضالات نساء مررن بتاريخ لبنان فتركن أثراً طيباً بسنّ القوانين وتأسيس منابر العلم والمدارس والعمل بالميدان الثقافي والتربوي بمجهودٍ أدّى سابقاً الى نهضة البلد وازدهاره، فما الذي يمنعها من القيام بالأمر نفسه اليوم؟

وتشير مغبغب الى أن فيلمها تعرّض لكثيرٍ من المشاكل والتعقيدات الناجمة عن الظروف العصيبة القائمة، بدءاً من الصعوبات الاقتصادية، مروراً بانعدام أبسط مقومات الحياة من انقطاع في التيار الكهربائي، وإغلاق للطرقات، وغلاءٍ فاحش، وشحّ في المواد الأولية. ولكنها تؤكد أنّها وفيما تشهد بلدها ينزلق الى قعر الجحيم ترفض الاستسلام كغيرها، وهذا ما يفسّر اصرارها على انتاج العمل المذكور بإمكانياتٍ بسيطة ورغم أنف كلّ المعوقات والظروف، لتحكي فنياً الجحيم الذي يتخبط فيه اللبناني، علّها بذلك تجمّل الواقع الأليم أسوةً بفنانين كبار سبقوها الى تلك المهمة كمايكل أنجلو وغوستاف دوريه وغيرهما، فالفنان تقول مغبغب، يرى جمالاً حتى في الجحيم.

وهكذا، وبدلاً من البكاء على أطلال بلدٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة، اختارت مغبغب أن تمضي بفيلمها قدماً معاندةً القدر الأسود، مضمّنةً مولودها لوحات وأعمالاً فنية لفنانين عالميين صوّروا الجحيم على طريقتهم، تلك التي ترى النصف الملآن من الكأس، النصف الجميل. وهكذا يحتوي الفيلم مشاهد لزجاجٍ محطّم، رمز اللحظة الكارثية بامتياز، وقد تحوّل تدريجاً الى نجومٍ براقة تزين السماء في لوحة فنية رائعة؛ ونافورة البترول التي تفيض نفطاً بأسود حالك تتحوّل ببطء شديد ومشهدية فنية عملاً فنياً يأسر العين. وحده الفن اذاً؛ وفق مغبغب؛ قادر على انتاج الجمال من القبح؛ ووحدهم الفنانون يستطيعون برهافة حسّهم تحويل جحيمنا الشنيع الى ما يمكن ان تحتمله النفوس ثم تثور عليه محولة الاسود الى أبيض، والموت الى حياة، وهذا هو دور الفن ورسالته النبيلة.


MISS 3