آن أبلبوم

الأشرار يفوزون...

20 تشرين الثاني 2021

المصدر: The Atlantic

02 : 01

إذا كان القرن العشرون يروي قصة تقدّم بطيء ومتفاوت نحو انتصار الديمقراطية الليبرالية على إيديولوجيات أخرى، مثل الشيوعية والفاشية والقومية الخبيثة، يسير القرن الواحد والعشرون، حتى الآن، في اتجاه معاكس...

اليوم، لا يهتم أكثر الأعضاء وحشية في تجمّع الكيانات الاستبدادية حول العالم بالانتقادات التي تتعرض لها بلدانهم أو الجهات التي توجّه تلك الانتقادات. لا يحمل قادة ميانمار مثلاً أي إيديولوجيا باستثناء القومية والإثراء الذاتي والرغبة في التمسك بالسلطة. يتجاهل قادة إيران من جهتهم آراء الكفار الغربيين بكل ثقة، ويعتبر قادة كوبا وفنزويلا مواقف الأجانب المنتشرين ميدانياً "إمبريالية" بطبيعتها. أما قادة الصين، فقد أمضوا عقداً من الزمن وهم يتجادلون حول المصطلحات التي تستعملها المؤسسات الدولية منذ وقت طويل في مجال حقوق الإنسان، فنجحوا في إقناع الكثيرين حول العالم بأن هذه المفاهيم "الغربية" لا تنطبق عليهم. لم تكتفِ روسيا بتجاهل الانتقادات الخارجية بل ذهبت إلى حد السخرية منها. بعد اعتقال المعارِض الروسي ألكسي نافالني في وقتٍ سابق من هذه السنة، اعتبرته منظمة العفو الدولية "سجين رأي": إنه مصطلح قيّم تستعمله منظمة حقوق الإنسان منذ الستينات. نتيجةً لذلك، أطلقت الجيوش الإلكترونية الروسية حملة لنشر تصريحات كان قد أدلى بها نافالني منذ 15 سنة وبدا وكأنها تخالف قواعد المنظمة حول المصطلحات المسيئة. وقعت منظمة العفو الدولية في الفخ وسحبت ذلك اللقب منه. لكن حين أدرك المسؤولون فيها أن الجيوش الإلكترونية تلاعبت بهم، عادوا واستعملوا تلك العبارة مجدداً، ثم سخرت وسائل الإعلام الروسية مما حصل. لم تكن تلك الحادثة إيجابية بالنسبة إلى حركة حقوق الإنسان.

يبدو الحــــكام المستبدون المعاصرون محصنّين ضد الانتقادات الدولية، فهم يستعملون تكتيكات عدائية للتصدي للاحتجاجات الحاشدة ومشاعر الاستياء العارمة. لم يتردد الرئيس فلاديمير بوتين في إجراء "انتخابات" مُنِع فيها حوالى 9 ملايين شخص من الترشّح في وقتٍ سابق من هذه السنة، وقد استفاد الحزب الموالي للحكومة من تغطية إعلامية تفوق الأحزاب الأخرى مُجتمعةً بخمس مرات. كذلك، انتشرت مقاطع يظهر فيها مسؤولون وهم يسرقون الأصوات، وتغيرت أعداد الناخبين المشاركين بطريقة غامضة. في مكان آخر، لم يخجل المجلس العسكري البورمي من قتل مئات المحتجين، منهم عدد من المراهقين، في شوارع "يانغون". وتتفاخر الحكومة الصينية من جهتها بتدمير حركة الديمقراطية الشعبية في هونغ كونغ.

لو كانت التركيبة الجيوسياسية مختلفة في العالم اليوم، كان الإيغوريون مثلاً ليحظوا بتعاطف رسمي كبير في تركيا المرتبطة بالجماعة الإيغورية من حيث الدين والانتماء العرقي واللغة. في العام 2009، قبل فتح معسكرات الاعتقال في الصين، وضع رجب طيب أردوغان، حين كان رئيس الوزراء التركي، القمع الصيني للإيغوريين في خانة "الإبادة الجماعية". وفي العام 2012، جلب معه رجال أعمال إلى "شينجيانغ" وتعهد بالاستثمار في شركات الإيغوريين هناك. لقد اتخذ هذه المواقف لأنها تحظى بشعبية واسعة.

لكن أصبح أردوغان رئيس تركيا في العام 2014 وانقلب منذ ذلك الحين على حُكم القانون ووسائل الإعلام والمحاكم المستقلة محلياً. وحين اتضحت عدائيته تجاه حلفاء سابقين في أوروبا وحلف الناتو وأقدم على اعتقال معارضيه، زاد اهتمامه بعقد صداقة مع الصين والاستفادة من استثماراتها وتقنياتها، وبات مستعداً لدعم الحملة الدعائية الصينية. إلى جانب هذه التغيرات، تبدّلت أيضاً سياسة الحكومة تجاه الإيغوريين.

في السنوات الأخيرة، راقبت الحكومة التركية الإيغوريين واعتقلتهم بتُهَم إرهاب مزيفة ورحّلت بعضهم، منهم أربعة أشخاص تم إرسالهم إلى طاجيكستان قبل تسليمهم فوراً إلى الصين في العام 2019.

زاد الوضع سوءاً في أواخر العام 2020، حين تزامن تأخير شحنة صينية من لقاحات كورونا مع ضغط بكين المتصاعد على تركيا للتوقيع على معاهدة تسليم المجرمين لتسهيل ترحيل الإيغوريين. بعد اعتراض أحزاب المعارضة على تلك المعاهدة، أنكرت الحكومتان التركية والصينية ارتباط تسليم شحنة اللقاحات بترحيل الإيغوريين، لكن يبقى التوقيت مثيراً للشكوك.

في الوقت الراهن، يحظى الإيغوريون في تركيا بدرجة من الحماية بفضل مظاهر الديمقراطية المتبقية هناك، أي أحزاب المعارضة وبعض وسائل الإعلام والرأي العام. لكن يختلف الوضع في الدول التي تتراجع فيها أهمية هذه العوامل الثلاثة. يتضح ذلك في الدول المسلمة التي يُفترض أن تعترض على قمع مسلمين آخرين. أعلن وزير الخارجية الباكستاني، عمران خان، صراحةً أن بلده يصدّق النسخة الصينية من قصة الخلاف بين الصين والإيغور. ويقال إن السعوديين والإماراتيين والمصريين عمدوا جميعاً إلى اعتقال الإيغوريين واحتجازهم وترحيلهم من دون أي نقاش. ليست صدفة أن تسعى هذه الدول كلها إلى إقامة علاقات اقتصادية حسنة مع الصين، وسبق واشترت هذه الأطراف تقنيات مراقبة صينية أيضاً. برأي الحكام المستبدين الحاليين والمحتملين، يقدّم الصينيون عرضاً واضحاً ومغرياً: يكفي أن يقتدوا بالصين في ملفات هونغ كونغ والتِبَت والإيغور وحقوق الإنسان، ويشتروا معدات المراقبة الصينية، ويقبلوا الاستثمارات الصينية الهائلة، كي يرتاحوا ويسترخوا لأنهم يعرفون أنهم سيبقون في السلطة حتى لو تلطخت صورتهم في أوساط حقوق الإنسان على الساحة الدولية.

لكن هل يُعتبر الأميركيون والأوروبيون مختلفين عنهم؟ وهل تبقى المؤسسات والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام في الغرب بمنأى عن هذا النوع من التلاعب؟

تطول لائحة الشركات الأميركية الكبرى التي تورطت في شبكات متداخلة من الروابط الشخصية والمالية والمهنية مع الصين وروسيا وأنظمة استبدادية أخرى. خلال الانتخابات الروسية الشائبة والمربكة في أيلول 2021، حذفت شركتا "آبل" و"غوغل" تطبيقات صُمّمت لمساعدة الناخبين الروس على اختيار مرشّحي المعارضة المفضلين لديهم بعدما هددت السلطات الروسية بملاحقة الموظفين المحليين في الشركتَين.

في الولايات المتحدة، بدأت أهمية الديمقراطيـــــة في السياسة الخارجية الأميركية تتراجع منذ سنوات. لا تزال واشنطن تنفق الأموال على مشاريع يمكن وضعها في خانة "مساعدات الديمقراطية"، لكن تبقى هذه المبالغ صغيرة جداً مقارنةً بالأموال التي يصرفها العالم الاستبدادي لتحقيق هدفه. لا يمكن مقارنة الميزانية التي تُخصصها "إذاعة آسيا الحرة" مثلاً للبث باللهجات البورمية، والكانتونية، والخميرية، والكورية، والتِبَتِية، والإيغورية، والفيتنامية، ولغات لاو والماندرين (33 مليون دولار) بالمليارات التي تنفقها الصين على وسائل الإعلام والاتصالات داخل حدودها وفي أنحاء العالم.

يدرك جو بايدن هذا التفاوت جيداً ويرغب في تجديد التحالف الديمقراطي واسترجاع الدور الأميركي الرائد فيه. لتحقيق هذه الغاية، قرر الرئيس الأميركي تنظيم قمة افتراضية في 9 و10 كانون الأول لتقوية الالتزامات والمبادرات تمهيداً لتحقيق ثلاثة أهداف: "التصدي للنزعة الاستبدادية، ومكافحة الفساد، وتعزيز احترام حقوق الإنسان".

إنها خطوات واعدة، لكنها ستخسر أهميتها إذا لم تترافق مع تغيرات عميقة في السلوك الغربي. في النهاية، لا تُعتبر "مكافحة الفساد" جزءاً من أهداف السياسة الخارجية فحسب. بل تبرز الحاجة إلى إحداث تعديلات في الأنظمة القائمة عبر تجاوز اعتراضات الشركات المحلية التي تستفيد من ذلك الفساد، وإغلاق الملاذات الضريبية، وتدعيم قوانين مكافحة تبييض الأموال، ووقف عمليات بيع تقنيات الأمن والمراقبة إلى الدول الاستبدادية، وحرمان أكثر الأنظمة وحشية. ويجب أن يضيف الأميركيون أوروبا، لا سيما بريطانيا ومجموعة أخرى من الشركاء، إلى هذه الخطة التي تتطلب أعلى درجات الدبلوماسية.

ينطبق الوضع نفسه على معركة حقوق الإنسان. لن تتحقق الوعود التي نسمعها في أي قمة دبلوماسية ما لم تعكس تصرفات السياسيين والمواطنين والشركات أهمية هذا العامل. لإحداث تغيير حقيقي، يجب أن تطرح إدارة بايدن أسئلة شائكة وتتخذ قرارات حاسمة. كيف يمكن إجبار شركتَي "آبل" و"غوغل" مثلاً على احترام حقوق الديمقراطيين الروس؟ وكيف يمكن دفع المصنّعين الغربيين إلى إلغاء جميع المنتجات المصنوعة في معسكرات اعتقال الإيغوريين من سلاسل إمداداتهم؟ تبرز الحاجة إلى زيادة الاستثمارات في وسائل الإعلام المستقلة حول العالم، فضلاً عن وضع استراتيجية للتواصل مع الناس داخل الأنظمة الاستبدادية، وإنشاء مؤسسات دولية جديدة بدل هيئات حقوق الإنسان الشائبة في الأمم المتحدة، وإيجاد طريقة فاعلة لتنسيق تحركات الدول الديمقراطية حين ترتكب البلدان الاستبدادية جرائم خارج حدودها. حتى الآن، لا وجود لأي استراتيجية موحّدة لمواجهة هذه المشكلة العابرة للحدود.

اليوم، لم يعد جزء من اليسار الأميركي مقتنعاً بأن "الديمقراطية" تدخل في صلب السياسة الخارجية الأميركية. يركّز هذا المعسكر على المشاكل الأميركية المريرة على اعتبار أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع تقديم أي شيء لبقية دول العالم: رفع المحتجون الداعمون للديمقراطية في هونغ كونغ الأعلام الأميركية خلال تحركاتهم لأنهم يشاركون الأميركيين جزءاً كبيراً من قناعاتهم، لكنّ مطالبتهم بالدعم الأميركي في العام 2019 لم تطلق موجة كبرى من التحركات الشبابية الداعمة لهم في الولايات المتحدة، حتى أنها لا تشبه في شيء الحركة المناهضة للفصل العنصري خلال الثمانينات.

يساوي هذا المعسكر بين نشر الديمقراطية حول العالم و"الحروب الأبدية"، فلا يفهم وحشية المنافسة التي تتصاعد اليوم أمام أنظارنا. الطبيعة تمقت الفراغ والعالم الجيوسياسي يمقته أيضاً. إذا حذفت الولايات المتحدة مبدأ نشر الديمقراطية من سياستها الخارجية، وإذا لم تعد تهتم بمصير الديمقراطيات والحركات الديمقراطية الأخرى، ستسارع الأنظمة الاستبدادية حتماً إلى أخذ مكانها كمصدر للنفوذ والتمويل والأفكار. وإذا فشل الأميركيون وحلفاؤهم في محاربة العادات والممارسات الاستبدادية في الخارج، لا مفر من أن تتسلل هذه المظاهر إلى الداخل. وإذا لم تشارك الولايات المتحدة في جهود محاسبة الأنظمة القاتلة، ستفلت تلك الأنظمة من العقاب وتتابع ممارسات السرقة والابتزاز والتعذيب والترهيب في بلدانها... وداخل بلداننا أيضاً!