ستيفن كوك

أردوغان ما كان يوماً مأزوماً لهذه الدرجة!

2 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

يبدو أن أخطاء الماضي عادت لتطارد المرتكبين في تركيا! كانت الأشهر القليلة الماضية مريعة بالنسبة إلى "حزب العدالة والتنمية" والرئيس رجب طيب أردوغان. أصبحت تركيا معزولة دولياً، ويتابع الاقتصاد التركي انهياره، وتكثر الشكوك حول صحة أردوغان، ولا تبدو نسبة تأييد الرئيس أو حزبه الحاكم إيجابية. برأي مجموعة متنوعة من المراقبين والمعارضين الأتراك، أصبح تفكك "حزب العدالة والتنمية" وشيكاً.

يثق "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب الخير" وأطراف أخرى بحصول انتخابات مبكرة، وتُخطط هذه الجهات للتخلي عن النظام الرئاسي الذي فرضه أردوغان والعودة إلى النظام البرلماني الرئاسي الهجين الذي كان سائداً في تركيا. قد تكون هذه الخطط سابقة لأوانها، فقد أكد عهد "حزب العدالة والتنمية" دوماً على عدم استبعاد أردوغان بهذه السهولة. مع ذلك، يواجه الرئيس وحزبه وضعاً شائكاً.

من بين جميع مشاكل تركيا، يبقى تدهور الوضع الاقتصادي أخطر مأزق يواجهه الزعيم التركي. نتيجة سوء إدارة أردوغان الفادحة، خسرت الليرة التركية حوالى 75% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي خلال العقد الماضي: 45% في السنة الماضية، و15% يوم الثلاثاء الماضي وحده. تواجه تركيا تحديات عدة وتحارب وباءً عالمياً، وقد سجّل اقتصادها نمواً بنسبة 1.8% في العام 2020. لكن يبدو المشهد الاقتصادي العام بالنسبة إلى الأتراك العاديين قاتماً: يبلغ مستوى التضخم 20%، ووصلت نسبة البطالة إلى 14%، وتوسّعت الفجوة بين الأثرياء والفقراء. رداً على انهيار الليرة، أوقف عدد من البنوك التركية المعروفة عملياته الإلكترونية ونزل الناس إلى الشوارع احتجاجاً على الوضع في أجزاء من أنقرة واسطنبول، وتنذر هذه التحركات بتنظيم تظاهرات إضافية على نطاق أوسع.

سعى أردوغان في الفترة الأخيرة إلى زيادة حظوظه السياسية المتدهورة عبر تحسين علاقات تركيا مع جوارها. إنه نهج معاكس للمقاربة التي طبّقها البلد في العام 2020، حين أطلقت الحكومة التركية سياسة خارجية عدائية، لا سيما في شرق البحر الأبيض المتوسط، لتحقيق غايات سياسية داخلية. نجحت أنقرة بدرجة معيّنة في كسر عزلتها، فتحسّنت وجهة علاقاتها الثنائية مع الحكومتَين السعودية والإماراتية بفضل سلسلة من المكالمات الهاتفية والزيارات الدبلوماسية بين القادة، مع أن علاقة تركيا وهاتين القوتَين الخليجيتَين البارزتَين لم تصل بعد إلى مرحلة الوئام التام.

على صعيد آخر، حاولت تركيا تحسين علاقاتها مع إسرائيل لكن لم يتجاوب الإسرائيليون بعد بالشكل المطلوب. تتراجع الأسباب التي تدفعهم إلى الوثوق بأردوغان أصلاً. في المقام الأول، اعتُقِل سائحان إسرائيليان حديثاً لأنهما التقطا صورة لقصر السلاطين (إنه موقع تذكره الهيئة السياحية التركية دوماً في مقاطعها الترويجية) واتُّهما بالتجسس. أُطلِق سراحهما لاحقاً، لكن بدت تلك الحادثة مُصمّمة لنشر مشاعر معادية للسامية وإسرائيل في تركيا لأغراض سياسية. وفي أواخر شهر تشرين الأول، قال الرئيس التركي لنظيره الفرنسي إن تركيا لن تحضر اجتماع باريس حول ليبيا في 11 تشرين الثاني إذا حضرت إسرائيل (واليونان وجمهورية قبرص). لم يشارك الإسرائيليون في ذلك الاجتماع، لكن حَضَر مسؤولون يونانيون وقبارصة. في مطلق الأحوال، يبدو أن أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" يغفلان عن حقيقة واضحة: لقد انتهى زمن تنازل إسرائيل لتحسين العلاقات مع تركيا رغم محاولات أنقرة إقصاء الإسرائيليين من الاجتماعات الدولية المهمة، وعلاقة تركيا مع حركة "حماس"، وخطابات أردوغان البغيضة حول إسرائيل والإسرائيليين.

ثم تبرز مسألة مصر. خلال الربيع والصيف الماضيَين، احتفلت الصحافة التركية والأطراف المناصرة للحكومة (إنها الجهات نفسها) بتطبيع العلاقات المرتقب بين تركيا ومصر. ساد افتراض شائع في أنقرة مفاده أن المصريين سيقتنصون هذه الفرصة في أسرع وقت وأن تحسين العلاقات مع القاهرة سيزيد الضغوط على الحكومات اليونانية والقبرصية والإسرائيلية. لكن لم يكن المصريون يتوقون إلى هذا الاتفاق بقدر ما يظن المسؤولون الأتراك، فقد أساء هؤلاء تقدير الأهمية التي يعطيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لعلاقات بلده مع اليونان وقبرص لأنهما تدعمان مصر داخل مجالس الاتحاد الأوروبي.

بالحديث عن أوروبا، كان الأوروبيون ليفرضوا العقوبات على تركيا لولا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نظراً إلى التجاوزات التركية المتعددة، بما في ذلك العمليات العسكرية في سوريا، واستكشاف الغاز بالقرب من قبرص، والتهديد بدفع المهاجرين نحو اليونان. تشير هذه المسألة الأخيرة إلى توتر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. في العام 2016، بدأ الاتحاد الأوروبي يدفع المال لأنقرة لإبقاء السوريين اليائسين في تركيا بدل السماح لهم بِشَقّ طريقهم نحو أوروبا. لكن رغم هذا الاتفاق، يُهدد الأتراك من وقتٍ لآخر بالسماح للسوريين (وسواهم) بالمرور، ما قد يؤدي إلى نشوء أزمة لاجئين جديدة ونشر الفوضى في المنطقة. كذلك، تتحدى المحاكم التركية المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أصدرت حُكماً مفاده أن استمرار اعتقال رجل الأعمال والناشط التركي عثمان كافالا المُتّهم عن غير وجه حق بدعم الإرهاب هو عمل مجحف ويُفترض أن يخرج من السجن. قد يؤدي هذا الوضع إلى تعليق حق تركيا بالتصويت في مجلس أوروبا أو طردها من هذه الهيئة.

في ما يخص الولايات المتحدة، أحدثت الحكومة التركية ضجة كبرى بعد الاجتماع الذي جمع أردوغان والرئيس الأميركي جو بايدن خلال قمة مجموعة العشرين في شهر تشرين الأول الماضي، لكن لم تتغير العلاقات الثنائية كثيراً. لا تزال مسألة شراء واستعمال نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400" من جانب تركيا عالقة، وتستمر الخلافات بين واشنطن وأنقرة بسبب الدعم الأميركي لفصائل "وحدات حماية الشعب" في سوريا، وتشعر الحكومة التركية بالاستياء لأن ثلاث إدارات أميركية متلاحقة ترفض حتى الآن تسليم رجل الدين التركي فتح الله غولن. وسط هذه الظروف، طلب الأتراك 40 طائرة جديدة من طراز "ف-16" وقاموا بتحديث معداتهم لاستعمال 80 طائرة إضافية. كذلك، أقنعت القيادة التركية نفسها بأن الصفقات المرتبطة بالطائرات أصبحت منجزة، لكن لا يزال موقف إدارة بايدن مبهماً. أوضح الرئيس الأميركي أن هذا النوع من الصفقات يتطلب "إجراءات" معينة. إنها طريقة مهذبة للتأكيد على أهمية موقف الكونغرس الذي يعارض هذه الصفقة أصلاً.

لم يتّضح بعد إذا كان أي تحسّن في مكانة تركيا الدولية سينعكس إيجاباً على الاقتصاد التركي، ويزداد الوضع غموضاً لأن تصرفات أردوغان لا تنذر بإعادة النظر بالمشاكل الاقتصادية التي كانت من صنع يديه. طوال سنوات، تكلم أردوغان عن مؤامرة خارجية مزعومة تشمل "لوبي سعر الفائدة"، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والصهاينة، ورجل الأعمال الملياردير جورج سوروس، وجهات أخرى تسعى إلى تدمير تركيا. لكنّ سوء إدارة أردوغان هو التفسير الوحيد للمعاناة الاقتصادية التي يعيشها الأتراك اليوم. في التفصيل، عمد الرئيس التركي إلى إضعاف استقلالية البنك المركزي عبر تبديل الحكام الخاضعين لضغوط سياسية شبه متواصلة. كذلك، ضايق أردوغان المحافظين المتلاحقين في البنك المركزي التركي، بما يتعارض مع أي منطق اقتصادي، للحفاظ على أسعار فائدة منخفضة.

نتيجة هذه الممارسات كلها، تدهورت قيمة الليرة التركية بشكلٍ حاد، ما أدى إلى زيادة كلفة المعيشة على الأتراك وزعزعة ميزانيات الشركات التركية المضطرة لتسديد قروضها بالدولار. قد ينعكس تراجع قيمة الليرة إيجاباً على الصادرات التركية طبعاً، لكن تبقى التكاليف الاجتماعية لهذا الوضع هائلة. يتّكل الأتراك الأكثر فقراً على الإعاشة. وبدل السياسة غير التقليدية التي تقضي بتخفيض أسعار الفائدة، يتم التحضير لرفعها الآن. هذا التدبير سيُسبب مشاكل مؤلمة، وتحديداً وسط الأتراك المثقلين بالأعباء المعيشية، لكنه قد يكبح انهيار الليرة والتضخم ويُجدّد ثقة المستثمرين. يرتكز التزام أردوغان بمعدلات الفائدة المتدنية على حساباته القائلة إن الائتمان الرخيص يفيد النمو والنمو يفيده سياسياً، لكن لا يسير الوضع في هذا الاتجاه.

إلى جانب مشاكل تركيا على مستوى السياسات الخارجية المسيئة والتحديات الاقتصادية المتزايدة، تبرز شكوك حول الوضع الصحي للرئيس أردوغان. لا يبدو هذا الأخير في وضع جيد أحياناً. لكن بعيداً عن حالة الرئيس الحقيقية، دائماً ما تكون الردود على الأسئلة المرتبطة بصحته عدائية. يعكس هذا النوع من الردود شكلاً من "التأليه" لأردوغان، لكنها ليست ظاهرة جديدة. هذا الرد المبالغ فيه يشير إلى الفجوة المتوسّعة بين مواقف الحكومة حول صحة الرئيس ومسائل أخرى مثل الديمقراطية والازدهار من جهة، والواقع الموضوعي من جهة أخرى.

حاول المتحدثون باسم الحكومة والأبواق الإعلامية والجيوش الإلكترونية ملء المساحات بالانتقادات اللاذعة والاستفزازات ومظاهر القمع. يُعتبر ارتفاع عدد المعتقلين في تركيا بسبب انتقادهم للحكومة مؤشراً واضحاً على تراجع الأعداد المقتنعة بأجندة أردوغان و"حزب العدالة والتنمية". بدأت جهود هذا المعسكر لتعويم نفسه سياسياً تدخل في حلقة مفرغة حيث يتابع المسؤولون الحكوميون والصحافيون استعمال خطابٍ لا يتماشى مع ظروف الناس على أرض الواقع، ما يؤدي إلى زيادة التشكيك بقيادة أردوغان وحزبه. هذه العوامل كلها تؤدي إلى زيادة الاعتقالات والأكاذيب والأسئلة المطروحة وارتفاع عدد الأتراك المحتجين على الوضع القائم، تزامناً مع تدهور المكانة السياسية لأردوغان و"حزب العدالة والتنمية" تدريجاً. بدأت هذه الدينامية تتّضح في استطلاعات الرأي الأخيرة، فهي تكشف أن أردوغان سيخسر السباق الرئاسي أمام رئيس بلدية أنقرة أو اسطنبول، حتى أنها تتوقع أن يتفوق زعيم "حزب الخير" على الرئيس أيضاً.

ربما أصبحت تركيا في عهد "حزب العدالة والتنمية" في طليعة الدول التي تشهد انتكاسات ديمقراطية وقد تتحول إلى قدوة لدولٍ مثل المجر وبولندا وحتى الولايات المتحدة، لكنها قد تحصل الآن على فرصة تصحيح المسار الديمقراطي. يصعب توقّع ما سيحصل، لكن من المستبعد ألا تؤثر مشاكل تركيا الهائلة، لا سيما اضطراباتها الاقتصادية إذا استمرت، على الفرص الانتخابية التي يملكها "حزب العدالة والتنمية". في الوقت نفسه، يصعب أن نتوقع من أردوغان أن يتقبل خسارة أي انتخابات بكل سهولة. لن يبقى أمام المعارضة التركية إذاً إلا أن تتمنى حصول الأفضل.