ريتا ابراهيم فريد

اللغة العربية في يومها العالمي... انهيارات تهدّد الهوية

18 كانون الأول 2021

02 : 00

هي التي طبعت في ذاكرتنا ملامح الإبداع، وخلقت في وجداننا قضيةً للدفاع عنها، حتى تحوّل التطرّف لتعابيرها ومفرداتها وأحرفها الى تمسّك بالانتماء. فاللغة هي أرض ووطن. هي اللغة العربية الثائرة، التي تجاهر بأصالتها في معركة التصدّي للغزو السريع للغة الإنترنت. وفي اليوم العالمي لها، هل هي بخير في ظلّ كلّ الانهيارات التي تحيط بنا؟

ما ذنب اللغة إذا تعاطاها من هم دون مستواها؟

يشير الشاعر الكبير هنري زغيب الى أنّه لا يمكن القول إنّ المشكلة تكمن في اللغة العربية، بل في من يتعاطون مع هذه اللغة. ويؤكّد في حديث لـ"نداء الوطن" على أنّ اللغة من الثوابت والمستعملون من المتغيّرات، ويقول: "أنا دائماً مع الثوابت التي لا تتغيّر. ما ذنب اللغة العربية إذا تعاطاها من هم دون مستواها لناحية التدقيق اللغوي أو البراعة في استخدام العبارات؟ أشدّد دائماً على أنّه لا يجب أن يتعامل مع اللغة إلا من كان على مستواها. يكفينا ما حولنا من انهيارات ومن هبوط على جميع المستويات، حتى نحمّل هذه اللغة أيضاً خطايانا وأخطاءنا، وخصوصاً ما أراه في معظم الصحف والمجلّات، وتالياً أيضاً، لدى معظم المذيعين والمذيعات في البرامج أو في نشرات الأخبار أو في الوسائل السمعية والبصرية". ويتابع قائلاً: "اللغة بنت العقل، فإذا أخطأنا في اللغة، إذاً المشكلة في عقلنا وليس في اللغة. اللغة دقيقة ومنطقية جداً، ومبنيّة على قواعد ثابتة معقلنة أثبتت جدواها مع الزمن، ولا يجب أن نتصدّى لها إلا إذا كنا فعلاً بالغذاء اللغوي الكافي الذي يجعلنا نتعامل مع اللغة ونكتبها ونتكلّمها بشكلها السليم".


الشاعر هنري زغيب


وإذ يشبّه اللغة بالجسد والحرف بالثوب، يوضح قائلاً: "يجب أن نتعامل مع جسم اللغة السليم، لا مع الثوب الذي قد يتبدّل من حرف عربي الى حرف لاتيني. إنما يجب أن نحترم هذا الجسد ولا نشوّهه باستخدام ثوب له يشوّه جماله. اللغة العربية ثوب جميل جداً، صعب ربّما لمن لا يستطيع الدخول الى مفرداته أو الى دقائقه أو قواعده، لكن هذا لا يعني أن نشوّهه بحروف تشوّه صميم اللغة. أنا مع كتابة اللغة العربية بالحرف العربي. والحرف اللاتيني لا يمكن له أن يعبّر عما نريد أن نقول، خصوصاً أنّ ما نراه حالياً من استخدام الحرف اللاتيني وسائط الإنترنت يتعاطى مع اللغة المحكية وليس مع اللغة الفصحى. وهذه اللغة تشوّه حتى اللغة المحكية حين يستعملها الناس من دون تدقيق".

على صعيد آخر، لا شكّ في أنّ عدداً كبيراً من الطلاب يستصعب دراسة اللغة العربية. ويشير زغيب في هذا الإطار الى أنّ المسؤولية تقع هُنا على عاتق فريق من العمل، بدايةً مع الكتاب المدرسي، لأنّ معظم المؤلّفين يصعّبون على التلامذة القواعد واللغة العربية، فتكون النتيجة أن يكره التلامذة اللغة وكتاب القواعد وكل ما له من شأن مع اللغة العربية. ويضيف أنّ المسؤول الثاني هو الأستاذ في الصفّ، الذي يكون غالباً غير جدير في تدريس هذه اللغة، عندها يعقّد الأمور على التلامذة، فيكرهون أستاذهم ويكرهون اللغة ويبتعدون عنها نفسياً، حتى لو تابعوا دراستها وأنجزوا واجباتهم المدرسية. والمسؤول الثالث هو المدرسة التي لا تختار من سلاسل اللغة العربية أفضلها وأجودها وأبسطها على التلامذة. ويختم قائلاً: "يجب إذاً على المؤلّف والمدرّس والمدرسة أن يتضافروا معاً كي يقدموا الى التلامذة طعاماً شهياً للغة العربية. عندها يُقبل التلامذة عليها ويدرسونها بفرح. ويكونون جديرين باستخدامها في ما بعد، قراءةً وكتابةً واستعمالاً كتابياً".


المناهج بحاجة الى نفضة

تشدّد عميدة كلية اللغات والترجمة ومديرة مدرسة الترجمة في جامعة "القديس يوسف" جينا أبو فاضل سعد على أنّ سلاحنا الوحيد في هذه الظروف الصعبة هو الثقافة والحفاظ على لغتنا الأم. وإذ ترفض ما يُقال عن أنّ اللغة في طريقها اليوم نحو الإنهيار، تعتبر أنّ المشكلة تكمن في أنّ البعض يستخدم هذه اللغة بطريقة غير صحيحة، وتقول: "ومن وظائفنا في الأوساط الأكاديمية أن نحافظ عليها وأن نسلّط الضوء على الأخطاء التي تنتج عن استخدامها". وتشير في هذا الإطار الى أنّ اللغة العربية تتعرّض الى مجزرة على مواقع التواصل الاجتماعي لناحية الأخطاء، لكن في المقابل هناك وسائل إعلامية عدّة وأدباء وشعراء يستخدمون لغة راقية. كما اعتبرت أنّ انتشار لغة الانترنت بالأحرف اللاتينية لا يشكّل خطراً على اللغة العربية، لأنّ استخدامها محصور بنطاق مواقع التواصل، كما أنّ اللغة العربية هي لغة حية ولها حضورها في نشرات الأخبار والصحف.


العميدة جينا أبو فاضل سعد


سعد تحدّثت أيضاً عن "نفضة" للمناهج الدراسية، مشيرة الى المسؤولية التي تقع على عدد منها وعلى بعض الأساتذة الذين يستعملون أساليب تقليدية وقديمة في مقاربة اللغة العربية مع طلابهم، ما يدفع الى الإبتعاد عن اللغة. وأشارت الى أنّ اليوم هناك وسائل جديدة وتفاعلية وعلينا الاستفادة منها. فالتعليم عن بُعد رغم كل مساوئه، إلا أنّه يتيح لنا استخدام الآلة بطريقة تحفّز الطالب وتدفعه الى الاقتراب أكثر من اللغة.

وشدّدت على ضرورة تشجيع الطلاب على القراءة والاستماع الى القصائد التي غنّاها عمالقة الفنّ مثل فيروز ووديع الصافي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم، لأنّ ذلك من شأنه أن يدفع الطلاب الى الاقتراب أكثر من اللغة. وحين يقتربون منها سيحبّونها، وهكذا تدخل تلقائياً في عروقهم.


الإعلامي بسّام براك


غــــيــــاب الــــرقــــابــــة

من جهته، يعتبر الإعلامي ومنسّق اللغة العربية بسام برّاك أنّ احتفالنا كلبنانيين باليوم العالمي للّغة العربية هو محاولة لاستعادة ما كان، بمعنى أنّ هذه "المعايدة الشكلية تأتي كي نشعر أننا ما زلنا أوفياء للّغة"، حسب قوله. ويتابع: "لكن إن كنّا نريد بالفعل أن نحيي المعايدة يوماً بعد يوم ضمن حياتنا الإعلامية أو في المدارس والجامعات، علينا إذاً أن نكون بالفعل أوفياء للّغة العربية من خلال المفردات واللفظ والأداء، بالإضافة الى عقد المؤتمرات والدورات والتدريبات الخاصة باللغة العربية، التي تراجعت للأسف في الفترة الأخيرة بسبب تفشّي وباء "كورونا".

من جهة أخرى، يرفض برّاك أن يحمّل القنوات التلفزيونية أو القيّمين عليها مسؤولية الأخطاء الكارثية لناحية القواعد والصياغة التي يقع بها عدد من المراسلين التلفزيونيين، ويوضح: "المدراء والمسؤولون الجدد في القنوات اليوم يعطون الأولوية للسياسة والوضع المعيشي الصعب والمواقف المتضاربة بين حزب وآخر، ولا يولون أهمية كبيرة للّغة العربية الفصحى كما كان يفعل مدراء الجيل القديم الذين تقلّص عددهم في الفترة الأخيرة. لذلك نرى أنّ المراسلين إجمالاً يقرأون تقاريرهم بالفصحى حيناً، وباللغة العامية حيناً آخر، وذلك بسبب غياب الرقابة، إضافة الى أنّهم لا يمتلكون الوقت الكافي للكتابة والصياغة باللغة الفصحى. علماً أنّ البعض منهم، وخصوصاً مقدّمي نشرات الأخبار، لا يزالون متشبّثين باللغة العربية، لكنّها لم تعد هي الأساس كما كانت في السابق".

براك الذي كان يؤلّف النصوص ويشرف على تنفيذ حلقات الإملاء التي كانت تُنقل مباشرة عبر شاشة "المؤسّسة اللبنانية للإرسال"، يشير الى ضرورة إعادة إطلاق دورات تدريبية جديدة وإصدار بيانات تشدّد على أهمية اللغة العربية. كما يؤكّد على أنّه لا يلوم المراسلين والمراسلات، لا سيّما أنّ التعليم الجامعي لم يعد يرسّخ وقتاً كافياً للاهتمام باللغة العربية، موضحاً أنّه لا يقصد تحريك الأحرف، بل المعاني وتركيب العبارات وكيفية صياغة الخبر.


MISS 3