آتال أحمد زاي

لماذا لا تزال"طالبان" تفضّل التفجيرات الانتحارية؟

29 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

استعرضت حركة "طالبان" معدات الاستشهاد أو التفجيرات الانتحارية على التلفزيون الوطني بعد فترة قصيرة على استيلائها على كابول في منتصف شهر آب الماضي. شمل ذلك العرض المزعج ترسانة من السترات الانتحارية، والقنابل المُعدّة للسيارات المفخخة، وأوعية الوقود البلاستيكية الصفراء التي تشير إلى العبوات الناسفة التي تشتهر بها الحركة. عُرِضت هذه المشاهد على وقع أغنية تُمجّد القنابل والانتحاريين.

في حدثٍ مختلف، أَحْيَت "طالبان" ذكرى الانتحاريين في فندق "إنتركونتيننتال" في مدينة كابول. هذه المرة، خاطب وزير الداخلية في النظام الجديد، سراج الدين حقاني، رئيس شبكة "حقاني" الشهيرة، مئات الرجال الذين يمثّلون أفراد عائلات الانتحاريين. هنّأ حقاني هؤلاء الرجال على تضحية أحبائهم المقدسة وأهداهم ملابس وأموالاً نقدية وقطع الأراضي التي وُعِدوا بها سابقاً. وفي ظل تصاعد الاضطرابات مع طاجيكستان، أعلنت الحركة في شهر تشرين الأول عن نشر 3 آلاف انتحاري على الحدود بين البلدين.

من الواضح أن شغف "طالبان" بالتفجيرات الانتحارية لم ينتهِ بعد انتصارها العسكري. بل يبدو أن هوسها بهذه التفجيرات بدأ يتخذ معنىً جديداً، إذ يشيد المسؤولون في الحركة بهذا التكتيك ومنفّذيه علناً وكأنهم يريدون بذلك أن يعطوه طابعاً طبيعياً على المستوى الاجتماعي ككل.

بعد تحوّل "طالبان" من حركة تمرّد إلى نظام مُكلّف بإدارة شؤون البلد، قد يبدو إصرار الحركة على دعم أكثر أشكال العنف السياسي تدميراً نهجاً غريباً أو غير منطقي. في النهاية، قد تزعزع التفجيرات الانتحارية استقرار الحكومة التي تحارب حركات التمرّد، لكن يختلف الوضع طبعاً حين تكون الحكومة بحد ذاتها الجهة المسؤولة عن معالجة الفوضى السائدة. كذلك، لا تكون التفجيرات الانتحارية مفيدة لتجديد استقرار أي بلد أو اقتصاد يوشك على الانهيار، أو للتفاوض على اتفاقيات تجارية مع دول خارجية، أو للتعامل مع تداعيات الوباء المستمر. هذه المسائل المُلحّة كلها تشغل حكومة "طالبان" اليوم.

لكن عند التدقيق بعلاقة "طالبان" بالتفجيرات الانتحارية ومسار تطورها منذ تبنّيها لهذا التكتيك في العام 2003، تبرز أسباب استراتيجية واجتماعية أكثر عمقاً لتفسير تمسّك الحركة بهذه التفجيرات أو اقتناعها بأهميتها رغم مكانتها الجديدة.

أولاً، تُعتبر التفجيرات الانتحارية جزءاً راسخاً في وحدات "طالبان" المسلّحة، وتستطيع الحركة أن تحتفظ بقدرة "احتياطية" لتنفيذ هذا النوع من الاعتداءات عند الحاجة من خلال متابعة تشغيل تلك الوحدات الانتحارية وتزويدها بالمعدات اللازمة. قد يشتق هذا النوع من الاستعمالات من أسباب محلية أو إقليمية أو حتى عالمية، بما في ذلك النزعة إلى محاربة أي مقاومة محلية مسلّحة، أو حركة التمرد التي يقودها تنظيم "الدولة الإسلامية في ولاية خراسان"، أو أي تدخّل أجنبي محتمل. أو ربما يُستعمَل هذا التكتيك لمضايقة الدول المجاورة بكل بساطة، لا سيما الجمهوريات في آسيا الوسطى. كذلك، قد تؤمّن "طالبان" انتحاريين لجماعات أخرى تحمل العقلية نفسها في أماكن بعيدة مثل كشمير التي تسيطر عليها الهند أو آسيا الوسطى.

ثانياً، يسمح تمجيد التفجيرات الانتحارية بترسيخ ديناميات السلطة داخل الحركة بحد ذاتها. بعد سقوط كابول وتلاشي عامل الحرب الذي كان يوحّد صفوف مختلف الفصائل في "طالبان" (حتى الآن على الأقل)، أصبح تصدّع الحركة حتمياً. يبدو أن شبكة "حقاني" التي نفّذت مئات العمليات الانتحارية المدروسة والمدمّرة والمُنسّقة على مر السنين هي التي تحتكر قسم التفجيرات الانتحارية في الحركة. قد يعكس العرض العلني الأخير إذاً صراعاً داخلياً على السلطة في "طالبان". وقد تستعمل شبكة "حقاني" قدرتها على احتكار التفجيرات الانتحارية للتفوق استراتيجياً على خصومها نظراً إلى خلافاتها المعروفة مع قيادة "طالبان" في قندهار. قد يكون استعراض هذه القوة بمثابة ورقة مساومة و/أو تكتيك لردع الخصوم.

لكن بعيداً عن هذه الأهداف الظاهرية، قد تستعمل "طالبان" التفجيرات الانتحارية أيضاً لتحقيق غايات اجتماعية ونفسية أوسع داخل الحركة وفي المجتمع الأفغاني ككل، لا سيما نشر العنف الأعمى وكبح أي تعلّق عاطفي وملموس بالحياة. يتعلق الهدف الأساسي بتغيير عقلية المجتمع وجعل الشغف بالدمار والعنف يتفوق على المنطق وإقناع الناس بأن غياب الحرب لا يعني عودة الحياة إلى مسارها الطبيعي.



تثبت مواقف "طالبان" من التفجيرات الانتحارية أن هذا الشغف يعكس نزعة الحركة إلى ترويج العنف في المجتمع، فقد كان هذا العامل أساسياً لترسيخ مكانة "طالبان" داخلياً وإعطاء طابع طبيعي للتفجيرات الانتحارية التي نفذتها حين كانت حركة متمرّدة. بعد تبنّي هذا التكتيك في العام 2003، تحوّلت "طالبان" سريعاً إلى واحدة من الجماعات التي نفّذت أكبر عدد من التفجيرات الانتحارية. من الناحية الإحصائية، أعلنت "طالبان" عن تنفيذ هجمات انتحارية أكثر من أي تنظيم إرهابي آخر. هذا النجاح في تطبيق أكثر أشكال العنف وحشية وعشوائية هو جزء راسخ من المفهومَين اللذين تُروّج لهما الحركة: "الاستشهاد" الذي يُشجّع الأعضاء على طلب الشهادة طوعاً، ومفهوم "الحب حتى الموت" الذي يدفع الأعضاء إلى نبذ حب الحياة في العالم. يدعم هذان الخطابان الدمار وقمع حسّ المنطق.

وفق المفهوم الكلاسيكي الذي يحمله الجنرال كارل فون كلاوزفيتز عن الحرب، يُعتبر الشغف والمنطق ضروريَين لتطبيق العنف السياسي المُنظّم. يقوّي الشغف رغبة الناس في المشاركة في أعمال العنف لدرجة أن يقتلوا الآخرين أو يتعرضوا للقتل. أما المنطق، فهو يتصدى للنزعة إلى العنف، فيطرحه كوسيلة لها غاية محددة ويمنعه من التحوّل إلى هدف نهائي بحد ذاته.

لكن يتحدى خطاب "طالبان" حول التفجيرات الانتحارية مبدأ المنطق لأنه يلجأ إلى العنف وينشره في كل مكان. على عكس منطق العنف السياسي، يعتبر مفهوم "الاستشهاد" غاية بحد ذاتها (في الحياة الدنيوية تحديداً) بدل أن يكون مجرّد وسيلة لتحقيق أهداف محددة. أما مفهوم "الحب حتى الموت"، فهو يتحدى صراحةً قدسية الحياة ويشكك بمعنى الوجود.

هذان المفهومان كانا الدافع وراء التفجيرات الانتحارية في "طالبان" التي جذبت بهذه الطريقة كوادرها الشابة، لكنهما اعتُبرا باليَين ومرفوضَين وبلا قيمة على المستوى الاجتماعي. رغم مواجهة أشكال متطرفة من العنف السياسي على مر عقود عدة، أثبت المجتمع الأفغاني قوة تحمّل استثنائية في وجه العقائد التي تؤيد دفن حيوية الحياة عبر نشر الخوف الأبدي والرضوخ التام وإنكار قدسية الحياة. بفضل مظاهر الحرب والدمار المطوّلة، تعلّم الشعب أن يرفض كبت ألمه ومعاناته وفضّل الاحتفال بالحياة والمنطق وشغف الحياة لمداواة الأحزان والأوجاع.

رغم أعمال العنف الوحشية التي ارتكبتها حركة "طالبان" المتمردة على مر 20 سنة عبر التفجيرات الانتحارية والعبوات الناسفة، حافظت كابول ومدن كبرى أخرى على حيويتها وأثبت شعبها قوة تعلّقه العاطفي والجسدي بمختلف جوانب الحياة. تتعدد مؤشرات هذه القوة، منها المجتمع المدني الحيوي، والحركات الداعمة للمرأة، والمجال الموسيقي الواعد، وحب الشِعْر، وتنامي فن الشارع والفنون الحرفية، والمقاهي المكتظة، وقاعات الأعراس الضخمة، ومظاهر الفكاهة الممتعة...

الآن وقد أغلقت "طالبان" مصادر الشغف التي تنتج مجتمعاً منطقياً وحيوياً، قد تحصل على الظروف المناسبة لترويج ثقافة الاستشهاد و"الحب حتى الموت" على نطاق اجتماعي أوسع. ستكون هذه الخطوة أساسية كي تضمن "طالبان" استمرار توسّع تفجيراتها الانتحارية لتحقيق أهداف محلية أو إقليمية أو عالمية، ولتخدير المجتمع بطريقة منهجية وترسيخ العقائد فيه ونشر مظاهر اليأس والقمع والهمجية والعنف.

يجب ألا يلتزم المجتمع الدولي الصمت مقابل هذا السلوك العقائدي الذي تتبناه "طالبان" تجاه مواطنيها، بل يُفترض أن يتواصل مع الحركة عبر محاسبتها على ارتكاباتها. كذلك، يجب ألا يُعطى تعريف ضيّق لحقوق النظام ومسؤولياته انطلاقاً من تأثيره على أمن العالم بطريقة مباشرة أو نتيجة ارتباطه بشبكات إرهابية إقليمية وعالمية أخرى. بل يجب أن تتحمّل "طالبان" مسؤولية حرمان مئات ملايين الناس الخاضعين لحُكمها من كراماتهم وأبسط حاجاتهم الإنسانية. أخيراً، يجب أن يوضع عجز النظام أو عدم استعداده لتأمين الضمانات والحريات الأساسية التي يستحقها البشر في هذا العصر في خانة انتهاك حقوق الشعب الأفغاني.


MISS 3