أنشال فوهرا

العقوبات الأميركية على سوريا غير نافعة

17 كانون الثاني 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

في ذروة الحرب الأهلية السورية، هرب السوريون من القصف العنيف لإنقاذ حياتهم، لكن أصبح معظم السكان الباقين في بلدهم مُصمّمين الآن على الهرب من الفقر المدقع. في الفترة الأخيرة، كان السوريون من بين المهاجرين الذين تدفقوا إلى حدود الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا. كانت تلك الأزمة من تنظيم روسيا والنظام السوري وحليفتهما بيلاروسيا، لكن تبقى رغبة السوريين في الهرب من الاقتصاد المنهار محلياً واضحة في مطلق الأحوال.

لم يخفّ يأس السوريين رغم تلاشي الصراع المسلّح. بدأت هذه الأزمة تدق ناقوس الخطر في العواصم الأوروبية، لكنها أكدت في الوقت نفسه شوائب السياسة الغربية. لا يستطيع المجتمع الدولي أن يغسل يديه من المشكلة السورية عبر فرض العقوبات بكل بساطة. بل يجب أن يفكر بطريقة براغماتية ويبتكر طريقة فاعلة للاستفادة من العقوبات لتحسين حياة الشعب السوري بدل التمسك بها لإثبات نيّته معاقبة بشار الأسد على جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها.

لا تزال الأعداد المتوجهة إلى أوروبا منخفضة مقارنةً بما كانت عليه منذ خمس سنوات، لكنها بدأت تتصاعد تدريجاً وبلغت ذروتها في السنة الماضية تزامناً مع توسّع طوابير الخبز والبنزين. وفق أرقام وكالة أنباء "أسوشيتد برس"، طلب 82 ألف سوري اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي في العام 2021، وقد قدّم 66 ألفاً منهم طلباتهم للمرة الأولى، ما يعني زيادة الطلبات بنسبة 70% مقارنةً بالسنة السابقة. وبحسب أحد الاستطلاعات، يريد 64% من السوريين داخل الأراضي التي يسيطر عليها النظام مغادرة البلد والانتقال إلى مكان آخر. تشمل أوروبا أصلاً مليون سوري، ولا يرغب الأوروبيون عموماً في استضافة المزيد. لكن يعتبر السوريون الذين يواجهون الحرمان يومياً ويتابعون العيش في مدن مدمّرة أن الرحلات الشائكة نحو أوروبا على متن مراكب غير صالحة للإبحار أصبحت مخرجهم الوحيد.

حاول أبو زاهر أن يعبر نحو ألمانيا من بيلاروسيا ثلاث مرات، لكنه تعرّض للخداع أو الاعتقال أو الترحيل. خلال محاولته الأولى، تركه المهربون وحده في غابة بالقرب من الحدود البولندية مع أنه دفع لهم المال لمرافقته إلى ألمانيا. وبعد بضعة أيام، أجبره الجنود البيلاروس على السباحة في نهر جليدي والعبور نحو ليتوانيا بطريقة غير قانونية. ثم ألقت شرطة الحدود الليتوانية القبض عليه وأعادته إلى بيلاروسيا فوراً. وخلال محاولته الثالثة، وصل إلى بولندا لكنه تعرّض للضرب على يد الشرطة البولندية ثم أُعيد إلى الغابة مجدداً.

سرعان ما انتهت أمواله وتَعِب من الهرب. لكنه يفضّل أن يتابع محاولة الوصول إلى ألمانيا بدل العودة إلى سوريا التي تفتقر إلى الكهرباء وأصبحت فيها المواد الغذائية الأساسية مكلفة جداً والوقود سلعة ثمينة. يقول أبو زاهر، وهو مهندس سوري عمره 33 سنة، إنه لم يهرب من القنابل بل من الأزمة الاقتصادية المدمّرة.

انهار الاقتصاد السوري نتيجة الدمار الناجم عن الحرب، واستفحال الفساد في نظام الأسد على مر عقود طويلة، وانهيار القطاع المصرفي في لبنان حيث خسر اللبنانيون والسوريون أيضاً ودائعهم. لكن أدت العقوبات الغربية التي منعت إعادة إعمار البلد، بما في ذلك بناء محطات توليد الكهرباء وترميم المدن المدمّرة، إلى تأجيج مآسي السوريين ونسف فرص التعافي.

لا يحمل السوريون أي توقعات إيجابية من حكومتهم التي حوّلت منازلهم ومتاجرهم ومدارسهم إلى ركام. لكنهم كانوا يأملون في أن يهبّ المستثمرون الأجانب لمساعدتهم لإعادة إعمار بلدهم والسماح لهم ببدء حياة جديدة. تبخرت هذه الآمال كلها حين أصبح "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا" ساري المفعول في حزيران 2020. يُهدد هذا القانون الأميركي بفرض العقوبات على أي كيان يقدّم "دعماً مالياً أو مادياً أو تكنولوجياً بارزاً" إلى النظام السوري، سواء كان ذلك الكيان أميركياً أو غير ذلك.

لا خلاف حول العقوبات الفردية ضد الأسد وأعوانه، بل يُجمع الخبراء بشكل عام على تحديد عدد إضافي من المسؤولين في الجهاز الأمني السوري لفرض العقوبات عليهم. يظن عدد من الخبراء أن المتّهمين بارتكاب الجرائم في الحرب السورية يجب أن يُحاكَموا في محاكم أوروبية وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية. لكن لا تزال منافع العقوبات بموجب قانون قيصر محط جدل واسع.

يفترض بعض الخبراء أن تخفيف العقوبات خوفاً من تدفق اللاجئين سيكون مرادفاً للرضوخ لتكتيكات روسيا والأسد. هم يقولون إن الأسد لم يرضخ بعد لأيٍّ من الشروط التي يطالب بها المجتمع الدولي بموجب القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن ولا ينوي تغيير سلوكه.

لكن يدعو خبراء آخرون إلى تبنّي مقاربة عملية مختلفة لتخفيف معاناة الشعب السوري وتجنب موجة جديدة من الهجرة الجماعية. بما أن أحداً لا يظن أن المعارضة ستُسقِط الأسد أو أن روسيا ستتخلى عنه في أي وقت قريب، تبرز الحاجة إلى تبنّي سياسة أكثر دقة. إذا تمسكت الولايات المتحدة بعقوباتها الواسعة إلى أن يسمح الأسد بإطلاق عملية انتقالية سياسية حقيقية، وهو تحوّل يعتبره النظام السوري شكلاً آخر من تغيير النظام، ستتفاقم الأزمة بكل بساطة مع مرور الوقت. لكن إذا استفاد المعنيون من العقوبات بالشكل المناسب وتراجعت حدة الضائقة الاقتصادية في سوريا، قد يتشجع السوريون على البقاء في بلدهم.

توصي "مجموعة الأزمات الدولية" منذ وقت طويل بأن تُحدد الولايات المتحدة خطوات "ملموسة وواقعية" يُفترض أن يطبّقها السوريون وحلفاؤهم مقابل رفع العقوبات عنهم.

لن تحاسب القيادة السورية نفسها أو مجرمي الحرب طبعاً ولن تطلق سراح جميع المعتقلين. لكنها قد تلبّي مطالب أخرى إذا حصلت على حوافز كافية. برأي "مجموعة الأزمات الدولية"، يمكن حث النظام على السماح للمنظمات الإنسانية الدولية بالوصول إلى البلد بلا عوائق، وتسهيل عودة النازحين إلى ديارهم، والتعهد بإنهاء الضربات الجوية العشوائية في المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام.

تقول دارين خليفة، محللة مرموقة في "مجموعة الأزمات الدولية"، إن الدول الغربية تحافظ على نفوذها اليوم في سوريا بفضل العقوبات والوجود العسكري للتحالف الدولي وسيطرتها على تدفق موارد خارجية بارزة لإعادة إعمار سوريا وإطلاق مسار التعافي في مرحلة مبكرة.

تضيف خليفة: "قد لا يكون هذا النفوذ كافياً على الأرجح لتغيير القيادة في دمشق، لكنه قد يُحقق أهدافاً كبرى ذات أهمية استراتيجية للغرب عند استعماله بالطريقة المناسبة وقد يصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى ملايين السوريين. لكن يجب أن تطلق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقفاً أكثر وضوحاً للاستفادة من هذا النفوذ والتأكيد على احتمال تحقيق نتائج مختلفة عن تغيير النظام حتى لو لم تقدّم دمشق أي تنازلات بلا مقابل. لا يمكن بدء أي مفاوضات انطلاقاً من شعار "دمشق لن تتزحزح". على غرار أي طرف آخر في الصراع، سيتابع النظام السوري تقديم التنازلات حين يشعر بأنه لا يملك خياراً آخر، شرط ألا تؤثر تلك التنازلات على أسس النظام".

جوشـوا لانديس هــو رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، وهو متزوج من امرأة ســورية علوية ويُعتبر من أشرس المدافعين عن إلغاء العقوبات. يقول لانديس: "يجب أن يحصل السوريون على فرصة لإخراج أنفسهم من حالة اليأس التي تجتاحهم. يعني ذلك رفع العقوبات عنهم. بعد تنفيذ هذه الخطوة، سيقدم المستثمرون الإقليميون أموالهم وسيُعاد إحياء اقتصاد البلد".

يحرص المستثمرون الإقليميون على المشاركة في إعادة إعمار سوريا ويطالبون الحكومة السورية في المقابل باحتواء إيران. في السنة الماضية، أقنع الأردن الولايات المتحدة بالسماح للغاز المصري والكهرباء الأردنية بالمرور بالأراضي السورية لإنهاء أزمة الكهرباء في لبنان تزامناً مع مساعدة الاقتصاد السوري.

هذه الخطوة أربكت المحللين، فقد تساءل هؤلاء عن السبب الذي منع إدارة بايدن من الاستفادة من العقوبات بدل الموافقة على ذلك الطلب من دون انتزاع أي تنازل في المقابل. في هذا السياق يقول أندرو تابلر، مسؤول في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "ليس من الحكمة أن نعطي كل شيء مقابل لا شيء"!

حاول فريق بايدن التأكيد على اختلاف مقاربته عن سياسات "الضغوط القصوى" التي كانت مبنية في الشرق الأوسط على أداة العقوبات أولاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لكنه لم يتخذ بعد أي خطوة قد تفيد الشعب السوري. بل إنه تابع بكل بساطة تطبيق "قانون قيصر" الذي أصبح ساري المفعول في عهد ترامب في كانون الأول 2019. غالباً ما تُعتبر سياسة الرئيس جو بايدن في سوريا "متخبّطة" كونها فشلت في إيجاد التوازن المناسب بين العقوبات والمكافآت لتغيير سلوك النظام. تبدو الإدارة الأميركية غير مستعدة لتغيير مقاربتها، ما يعني استمرار الأزمة رغم تداعياتها على حياة ملايين الناس ومستقبل السياسة الأوروبية أيضاً.


MISS 3