ريتا بولس شهوان

اللقز الرملي ارتفع سعره من 50 ألف ليرة إلى مليون

السمك والصياد ضحية وزارة الزراعة... والدفع على المستهلك!

31 كانون الثاني 2022

02 : 00

صيد ثمين
«العزّ للبرغل، والسمك شنق حالو»، فالغلاء لم يعد مقتصراً على اللحوم على أنواعها، بل أيضا حرم اللبناني فرصة استبداله بالسمك. والسبب في ذلك كلفة الصيد، التي تضاف على فاتورة المستهلك. تأمين مصاريف مهنة الصيد ومستلزماتها، لم يخفّض من مستوى عيش الصياد وعائلته فقط، وهي غير ثابتة اصلاً، بل وضع مستقبل المهنة كلها في خطر.





المصائب تتوالى منذ نقطة انطلاق البحارة في جبل لبنان، وتتوزع تلك بين مرفأ جونية، الذي يصفه بعض الصيادين المخضرمين بغير الصالح للملاحة في فصل الشتاء، حتى لو خضع للتأهيل سابقاً. ويصنفون مرفأ الدورة «بالآمن جغرافياً»، إذ انه لا تجتاحه الأمواج مع العواصف، لكن بيئياً وضعه تعيس جداً وهي بيئة غير حاضنة للصيادين. هكذا لا يكون الا مرفأ عمشيت المؤهل حديثاً الأفضل بعد البترون. هذه المعاناة من اجل «سمكة»، نهايتها مزاد الدورة الذي لا يفتتح عن يد التعاونية الا ان كان عدد الصيادين كبيراً.


تعب البحر



صبر البحّار

يصبر البحار على تقلبات الطبيعة وظروفها التي تقهره كما الدولار، فينتظر الفرج بزوال العاصفة. مروان (بحار من عمشيت) لم يعرف طعم الدفء والأمان، الا بعد ان استأجر مسمكته في الميناء. لكن تلك لا تعمُر من دون زملاء البحر، الذين يعيشون اليوم بالمئة الف ليرة، وهي ما يتبقى لهم بعد كل بيعة. يهّون اميل على نفسه مشقة العيش من الفلوكة والصنارة، فرخصتها بـ100 الف ليرة سنوياً، صامداً على الشطّ. تتواتر قصص وزارة الزراعة واوراقها فيخبر العم مبارك (بترون) انه قضى السنوات الأخيرة يعبئ طلبات لا فائدة منها حتى توقف عن بذل أي جهد. هكذا ومع عدم متابعة الدولة لمصاريف البحارة، ما كان الا ان زاد سعر السمك مع ضخامة التكاليف، التي تصل الى مليوني ليرة، وفق عداد سليم هاشم (صياد من الدورة)، كل 15 يوماً. يدّخر مما يحصده في فصل الصيف، ليصرفه خلال عواصف الشتاء، مبعداً بذلك شبح الفقر والتعتير عن اهل بيته بعمل آخر كناطور لمولد، آملاً ان يمر هذا الفصل بسرعة دون عواصف تذكر. تخلى أخيرا عن الشبك وانتقل الى الشرك والجرجارة، دون ان يبدل في نمط حياته الشاقة تفصيلاً مملاً. فيبدأ دوامه في عزّ نومة الموظفين العاديين، دافعاً يومياً على قدر ما يصرف «انسان البرّ» كثمن مواصلات اسبوعياً، اي 500 الف ليرة ثمن المحروقات قائلاً: «هات نطلعن، هات لا»، فالحظ بيد الله ولا احد يدري ما يخبئ، منتظراً «تِمّ السمكة».

ما يخبره عن نهاره الشاق، والذي يحتاج الى قدرات تفوق عمره، يوهمك بانك تحاور رجلاً يزن طناً، قادراً على صد الرياح في طقس بردُه قارص، لتنتبه بأنه رجل استهلكته ظروف الحياة. يخبرك سليم عن مرحلة اكتساب مهارة القيادة، والتي لولا تمكنه منها لكان غرق في عباب البحر. يقفز بصبره على فساد الدولة التي قلصت جنى ثماره من السمك الى النصف، بسبب مكب النفايات على الدورة، الذي بدأ العمل به منذ عامين مما أجبره على التنقل بين المناطق بمركبه، فما عاد عمله محصوراً عند الدورة، بالتالي كبر مصروف المازوت. نتيجة كل هذه الصعوبات، زاد سعر السمك اكثر من 10 مرات. يعدد يوسف (صياد عند الدورة) أسعارها، فاللقز الرملي الذي كان يباع وفق سعر الصرف القديم بـ 50 ألفاً اصبح يباع اليوم بمليون ليرة، اما السمك العادي الذي كان يباع بـ 10 آلاف ليرة اصبح مئة الف. يقسّم يوسف أصحاب المهنة من البحارة الى ذوي الشبك، الذين يتخطون ظروف الطقس، فيرمون شباكهم تاركين السمك يقع ضحية المياه «المعوكرة» التي تزيد لهم غلتهم، وقسم آخر عوامل الطقس تعيق عملهم، وهو منهم حتى لو لم يعرف العيد يوماً ولا عطل نهاية الأسبوع، فيعمل لاكثر من 20 ساعة يومياً ليغطي أي خسارة مستقبلية، اذ ان عائلته تعتمد عليه.


غلة ليست لكل يوم



شباك وصيادون

يجمع الصيادون من كل المناطق ان الشبك تقطع نسل السمك وبيضه والبذور، فتسحب الكبيرة والصغيرة وتخف الثروة السمكية. فتحة الشبك التي حددتها الدولة لا تلزم البحارة، فالجوع يحوّلهم الى خارجين عن القانون فيتفهم نقيب صيادي السمك في بيروت وجبل لبنان جان شواح الوضع، مشيراً الى أن القوانين التي تنظم عملية صيد الأسماك لا تنفذ، فليس هناك شرطة للمراقبة، والعدد الموجود لتنظيم قانون صيد السمك قليل، فهناك مراقب واحد من الدورة الى نهر إبراهيم سائلاً: كيف يراقب؟

مع زيادة الصيد العشوائي بالتوازي مع ارتفاع أسعار أدوات المهنة، تقلصت غلة السمك وارتفع سعره، على حد وصفه. لجوء هذا الصياد الى مخالفة القوانين اتى بعد أن تُرك الى قدره، من دون أي ضمانات على حد تعبيره، متنبئاً بزوال المهنة في المتن، كسروان وجبيل بسبب التلوث وعدم نقلها الى الأجيال القادمة. ومع ذلك تعاونية صيادي الأسماك في ميناء عمشيت هي الوحيدة التي نجحت في حجز مقعد لمنتسبيها في احدى شركات التأمين. يشرح امين سر التعاونية حسان رزق بأنه تعاطفاً مع وضع بحارة عمشيت، سعت التعاونية المؤلفة من اهل البلدة بتغيير مسار حياة الذين لم يعرفوا الثبات يوماً في حياتهم، وذلك من خلال مسار طويل من المساعدات، عبر توأمة مع الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع مؤسسة رينيه معوض، وأموال من مساعدات أميركية لتأهيل الميناء، المسبح الشعبي وسيدة البحار. تضم هذه التعاونية 43 بحاراً وتهتم بهم فتشملهم بدورة اقتصادية دامجة خاصة بهذا المرفأ، فتقطع اموالاً لهم من مراكب السياحة ونشاطات أخرى.


لانشات ومناطق مختارة للصيد



تعاونية عمشيت

الإهمال الذي يعيشه البحارة، مقابل مشهد الاهتمام من تعاونية عمشيت، وهي مبادرة محلية، حمل «نداء الوطن» لتسأل أوساط البحارة عن السبب، لتكتشف بأن الجمعيات وحدها قد تلتفت اليهم. اما وزارة الزراعة فلا تلحظهم بالاساس، ولا تؤدي مهمة تنظيم المهنة التي شارك فادي (صياد من البترون) في اجتماعات سابقة لم تفضِ الى نتيجة. يعود بالذاكرة الى سنوات عدة، عندما حصل على منحة للسفر والتدريب على صيد التونا عبر الوزارة، التي لم تسأله عن أي تفصيل ولم تستنجد بخبرته في شيء. استنتج فادي بعد تواصل مباشر مع الوزارة بأنها تستغل صفتها لحضور مؤتمرات دولية، لتوحي بانها تعمل، دون أي نتائج تذكر. ومن يتحمل وزر اللامبالاة، غير الصياد الذي حتى تغيّر نمط حياته في السنتين المنصرمتين مع تبدل سعر الصرف.

ايلي خليل (صياد من كسروان) خفف من طبق اللحوم واستبدله بالسمك «لان البحر ما بطعمي وغدار»، بمعنى انه لا يغطي كل مصاريف المنزل. ضعف الثروة السمكية بسبب صيادي «البزرة» حدد مدخوله المرتبط بعوامل الطقس الرديء. صعوبة هذه المهنة، التي لا يملك غيرها ليست في استخراج الأسماك بل أيضاً في عملية التوزيع الى السوق المكلفة، فيستهلك سيارته الخاصة إضافة الى مركبه. هنا يصنف انه حتى بين البحارة انفسهم، هناك طبقات فهناك من يستخدم الطعم التقليدي كالخبز والعجين وهما مخصصان للفقراء من البحارة الذين لا يملكون رفاهية الغوص في عرض البحر، ويأتي بعدهم الذين يملكون إمكانيات شراء اكثر من فلوكة، ليكون في قمة الهرم روّاد سمكة «الغمق»، التي يصل اليها المقتدرون من الصيادين، عبر «اللانشات». سمكة «الغمق» هذه لا ينخرها التلوث، فيعيّن الصياد على السمكة الاثقل وزناً، تاركاً المجال للاصغر ان يتكاثر. مستخدماً كل وسائل التكنولوجيا للابتعاد عن مناطق التلوث التي يحفظها الصيادون عن ظهر قلب.


بانتظار يوم آخر



وزارة لا تسأل

يختصر البروفسور المتخصص في الثروة السمكية جهاد عبود وضع صيادي الأسماك في لبنان بكلمة «هواة» نسبة الى المعايير العالمية. ومع ذلك تتدهور حال الصيادين على حد وصفه بسبب الفساد البيئي والشبهات حول مطمر الجديدة - برج حمود والنفايات المنتشرة مع مياه الصرف الصحي. انقراض الثروة السمكية، التي تذهب ضحية فساد المتعهدين وجهل الصيادين، صرخة حملها مراراً الى وزارة الزراعة وعلى أبواب المحاكم دون أي نتيجة. يعلل ذلك بأن الصيادين، الذين يتحايلون في معظم الأحيان على القانون، مفروزين سياسياً، والا ما امعنوا في جرف كل البذور. والدليل على حد توصيفه انه وعندما تأتي الرقابة عليهم، يخترعون الف حيلة وحيلة للهرب من المحاسبة، محملاً مسؤولية ذلك الى وزارة الزراعة، اذ تفتقر الى خبراء صيد اسماك. سائلاً عن خلفيات اصرارهم على منهج البروبغندا، دون تسهيلات للصياد، فلا يصلحون لهم مراكبهم، التي لا يمكن ان تتخطى بمواصفاتها الميلين بسبب الأمواج، ولا يمدون لهم يد العون بالشِّباك. بين «حانا ومانا» يعيش المواطن الأمرّين ليتقاضى راتبه من جهة بشروط وظيفية ومهنية تعجيزية، وليجد ما يأكله بالسعر المناسب. هل من مجيب؟


MISS 3