شربل داغر

بين الرقمي والفكري

4 نيسان 2022

02 : 00

لم أكن أعلم، في نهاية العام 1986، في باريس، أن تَعلّمي، في دورة تدريبية على الحاسوب، سيمكنني من أن يكون لكتابتي هذا الحشد الهائل من المعاونِين.

في تلك السنة، انتظرتُ أكثر من يوم قبل الحصول على بطاقة للدخول إلى "المكتبة الوطنية" قرب "ساحة بور رويال" الباريسية. وانتظرتُ أزيد من ساعة قبل أن أتصفح أوراق أول معجم عربي-فرنسي-إسباني...

هذا المعجم بات متوافراً لي في أقل من ثانية، مثل غيره من فرائد "مكتبة فرنسا الوطنية" (بعد تغيير اسمها القديم).

كنتُ محظوظا أكثر من المستشرق جاك بيرك، عندما اطلعتُ، في قريته، سان-جوليان-اون-بورن، على قصاصات، أو جُذاذات، كان يُدوّن فيها اقتباساته من هذا الكتاب أو ذاك... فكيف لو افتكرتُ بمن كانوا ينتظرون سنوات وسنوات قبل الحصول على كتاب، أو ينتظرون أكثر من سنة، في بلدة قنوبين (القريبة من قريتي)، لكي يتوفقوا بمرور ترجمان على المقر البطريركي، فيترجم لهم رسالة بابا رومية التي كانت قد وصلتهم قبل سنة وأزيد...

أذكرُ هذا فيما أقرأ، في كتاب لريجيس دوبريه، ان اختصاصات الهندسة باتت تتعدى السبعين، فيما كانت تقتصر على اختصاصَين اثنين قبل ثلاثة عقود.

هذا ما أعايشُه في جامعتي نفسها، حيث لم تعد كلية الآداب والعلوم الإنسانية هي الأكبر بين الكليات، بل كلية الهندسة. وهو ما يزداد ويتعاظم في غيرها من الجامعات...

كيف نسمي هذا؟ كيف نتعامل معه؟ أهو دلالة تطور وتقدم؟

من المؤكد ان الثورة الرقمية قلبت العالم، قبل العلوم. بات الحاسوب، ووليده: الهاتف النقال، يختصران البيت، والمكتب، والجامعة وغيرها. وهو ما يَبلغُ أحوال الإنسان كلها، من عمله حتى تواصله ولَهْوِه. هذا ما امتد إلى الكتاب وشاشة السينما والتلفزيون واللوحة وغيرها، بحيث بتنا لا نحسن التمييز بين ما هو مُنتَج طبيعياً وما هو مُنتَج افتراضياً.

يصعب، في ايامنا هذه، إستبيان ما يمكن أن تؤول إليه الثورة الرقمية، ولا توقع أحوالها. إلا أن ما يَظهر، هو غلبة مزيدة للتقني على حساب الفكري. أعرف أن البعض سيعترض بحجة أن التقني هو فكري في منطلقه. هذا صحيح؛ لكن تفاقم التقنية أكيد، وقد تكون كلفته الإنسانية باهظة وغير منظورة كفاية. فالتقني يصبح له منطقُ تطورٍ يلتزم بحسابات استهلاكية، اي بجذب الجمهور وحسب.

أهذا يَضمن الاحتكام السليم للعقل وقواه الفكرية في ما يصلح للإنسانية في تطلعها صوب التقدم والسعادة؟


MISS 3