وليد سنو

المطالبة بالمحاسبة: الفاصل بين المعارضة والولاء المبطن

المتعايش مع الذئب موافق على شريعة الغاب

4 نيسان 2022

02 : 00

«جميع الحكومات.. حتى أكثرها استبداداً ترتكز على مفهوم الموافقة. والمغالطة تكمن في معادلة الموافقة مع الطاعة.. إذا قيل إن شخصاً بالغاً يطيع، فهو في الواقع يدعم المنظمة أو السلطة أو القانون الذي يدعي طاعته» (المفكرة الألمانية هانا أرندت)

هل هي منظومة أم مافيا وميليشيا يديرها أشخاص بعمائم أو سياسيون وموظفون لديهم؟!

إن انفجار الغضب الناجم عن فرض ضريبة على الرسائل النصية لم يؤد إلى تغيير النظام، ولا إلى حكومة محايدة مكلفة بالإشراف على الإصلاحات، ولا حتى ما يسمى بالحكومة «التكنو سياسية» التي تمثل نوعاً من التعايش مع الشر في نظر المتظاهرين. تستخدم مجموعات الثورة اختصاراً يشير إلى النظام السياسي الفاشل والأشخاص الذين استولوا عليه في بداية الحرب الأهلية وانضم إليهم في عام 2005 حزب ميشال عون الرئاسي: «المنظومة». اما الوصف الأكثر دقة للدولة اللبنانية اليوم هو مختصر بثنائي المافيا والميليشيا. ولكن هناك قلة دقة في هذه الأوصاف لأن تصنيف المرض لا يساوي إجراء التشخيص. فلذلك، ليس من المستغرب أن يترك اللبنانيون يتعاملون مع سقوطهم السريع في أحد البلدان الأكثر بؤساً للعيش في العالم اليوم.

إحتلال يترك المطار مفتوحاً

لقد حافظت الـ»منظومة» بقوة على تمسكها بعجلة القيادة التي تقود تلك السفينة (Titanic) بثقة إلى أقرب وأكبر جبل جليدي: الانهيار المالي المتعمد كما وصفه البنك الدولي في تقييمه للفترة 2020-2021. يجب أن أعترف هنا بأن الكثيرين في هذه المرحلة، وأنا من بينهم، حاولوا تفسير الافتقار اليائس إلى قدرة النفوذ من بين الباحثين عن التغيير بشيء من المبالغة: ان نعترف بأن لبنان تحت الاحتلال الإيراني. حتى أنني ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال مقارنة اللبنانيين بسكان الچيتو اليهودي في وارسو. كان ذلك مبالغة كبيرة جداً حيث تذكرت حينها أنه لحسن الحظ لا يزال المطار مفتوحاً (يقال أن 350 ألفاً هاجروا)!

بين الموالين لإيران ودعاة الفدرالية

فعلى الرغم من أنه يمكن للمرء أن يؤكد بسهولة أن لبنان هو منقسم بين الأشخاص الموالين لإيران (العديد من القادة السياسيين هم كذلك) والأشخاص الذين يعارضون «حزب الله» ومموليه، إلا أن هذا لا يفسر التفكك الأخلاقي للمجتمع في تكيفه مع مستويات من الشر لم يسبق لها مثيل من قبل، بينما في الواقع يعبر في شبه مجمله وكل يوم عن موافقته على سياسات الحكومة الشيطانية. وتصل هذه الموافقة إلى مستوى جديد من السخرية عندما يقال إن منافسة الجودو لم يكن لديها خيار سوى طاعة مدربها والخسارة في مسابقة دولية لأنه بخلاف ذلك، كانت ستتنافس ضد إسرائيلية خلال الجولة التالية. بل إن البعض يصر على العكس من ذلك على أن مشاكلنا تنبع فقط من نظام سياسي غير مناسب، وأن «نحن» ليست أمراً محسوماً، وأن التقارب مع «حزب الله» مرتبط ببساطة بشكل من أشكال الانتماء الثقافي الشيعي الذي لا يمكن التعامل معه إلا من خلال تخفيف قبضة الدولة المركزية وإنشاء سلطة كانتونية مسيحية ذات سيادة في ظل فيدرالية لبنانية جديدة. وبطبيعة الحال، فإن هؤلاء الفيدراليين المسيحيين في حيرة من أمرهم لتفسير تحالف الحزب المسيحي الذي لا يتزعزع وولائه لـ»ولاية الفقيه» وميليشياتها المحلية.

هناك شران

إن تحليل شرورنا وموقفنا في التعامل معها قد يساعد في فهم سبب فشل الشعب اللبناني وقادته الجدد الطموحين الذين يتوقون إلى التغيير حتى الآن في تحقيق هذا التغيير. هناك شران يبدو للوهلة الأولى أنهما يصفان الاعراف المقدسة لدى الحكومات اللبنانية المتتالية: الأول هو الحرب المقدسة ضد السلام بين لبنان وإسرائيل (مرادف عملياً بفحص يومي لموقف المواطنين من معاداة الصهيونية، لكنه عادة ما يسير بشكل جيد للغاية مع التعصب الأعمى، ورهاب المثلية، وأي شكل آخر من أشكال الجنح الاجتماعي مثل توزيع الحلوى عندما تنتشر أخبار مقتل جندي إسرائيلي، أو هجوم على البنية التحتية لمدينة جدة السعودية). هذا الشر الأول مدعوم اليوم وتعززه شبكة نفوذ «حزب الله» في الداخل والحرس الثوري الإيراني في طهران، وقد تم تكريسه عملياً تحت وسم «المقاومة»، بحجة مفادها أن الدعوة إلى السلام هي من أشكال التعاون مع العدو، وإهانة للكرامة الوطنية، كما أن دعم الحرب الدائمة (في الداخل والخارج) هو مسار الشر الضروري الى حين ان يهزم العالم العربي والإسلامي إسرائيل، واستعادة القدس (ما يصعب مناقشته الآن في سياق اتفاقات إبراهام والقمم الإقليمية التي تضم إسرائيليين وعرباً). اما الشر الثاني فهو قبول الاستيلاء على الدولة كأمر طبيعي. يعتمد اللبنانيون على الدولة، التي بدورها يتم الاستيلاء عليها من قبل الكليبتوقراطيين. إن قرار الحجز القضائي الأخير في عدة بلدان في أوروبا على 120 مليون يورو يزعم أنها لمحافظ البنك المركزي وحاشيته، لم يتبعه بيان من الحكومة ناهيك عن عدم إقالته: إنه لأمر معقد؟!

كلن يعني كلن.. واختيار أهون الشرين

ولمواجهة هذين الشرين، تكرر جماعات المجتمع المدني التي تعبر بحماس شديد عن احتقارها لمجموعة المافيا والميليشيا M&M شعاراً غريباً منذ 2019: «كلن يعني كلن» (KYK)، وهو بمثابة الفتوى بعدم الأهلية السياسية لجميع السياسيين او الموظفين المقربين منهم. كتب العديد من المحللين عن مغالطة شعار «KYK» الشهير. بينما كان الناس يتعاملون مع واقعهم الجديد الناجم عن السياسات المعيبة لذلك الحاكم، أو الإجراءات التي اتخذها هذا الوزير أو ذاك أو الرئيس نفسه، أو إذا لم يتمكنوا من التأقلم لأنهم عانوا من السرطان وكانوا يموتون بسبب نقص العلاج في صمت يصم الآذان من أصدقائهم وأحياناً أسرهم، وبينما كانوا يشهدون انهيار الضمان الاجتماعي ومحاولة إكراه برنامج البطاقة التموينية الممولة من البنك الدولي، وهم يشاهدون الاعتداء السياسي الصارخ والمناورات ضد القضاة واستقلال القضاء في قضية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. كانت تلك الجماعات، التي تحول بعضها الآن إلى أحزاب سياسية، تميل إلى الاستسلام للشعار: «إنها شبكة سياسية معقدة، فمن نحن لنحكم على فرد معين؟». إذا واجهت شرين، فمن واجبك اختيار الألطف. ومن غير المسؤول رفض الاختيار بين الاثنين». وتحديداً هنا، علينا ان نستذكر المفكرة الالمانية هانا أرندت.

المسؤولية الشخصية والتفكك الأخلاقي

بعد روايتها عن محاكمة أدولف أيخمان (1960) التي نشرتها في كتابها «أيخمان في القدس، تقرير عن تفاهة الشر»، شعرت أرندت بالحاجة إلى مزيد من التفصيل في تحليلها من خلال دراسة إشكالية المسؤولية الشخصية والحكم في مقال بعنوان «المسؤولية الشخصية في ظل الديكتاتورية». ومن خلال توصيفها المشهد في المجتمع الألماني خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب (1933-1938)، كتبت:

«باختصار، ما أزعجنا هو ليس سلوك أعدائنا، ولكن أصدقائنا، الذين لم يفعلوا شيئا لمواجهة هذا الوضع. هم لم يكونوا مسؤولين عن النازيين، لقد أعجبوا فقط بنجاح التيار النازي وكانوا غير قادرين على وضع حكمهم الخاص بمواجهة حكم التاريخ، كما قرأوه. وبدون الأخذ بعين الاعتبار الانهيار العالمي تقريباً، ليس للمسؤولية الشخصية، ولكن للحكم الشخصي في المراحل الأولى من النظام النازي، من المستحيل ان نفهم ما حدث بالفعل. [..] أعتقد أن هذا التفكك الأخلاقي المبكر للمجتمع الألماني، الذي بالكاد يمكن إدراكه من الخارج، كان بمثابة نوع من بروفة لانهياره التام، الذي كان سيحدث خلال سنوات الحرب».

تحاول أرندت دراسة ما يجري داخل الضمائر الفردية في ذلك الوقت، مما يجعل التناقض والتمييز واضحين بين المسؤولية السياسية «التي تتحملها كل حكومة عن أفعالها وأفعال أسلافها» و «المسؤولية الشخصية». ثم تتوسع:

الجميع مذنبون.. إذا لا أحد مذنب!

«لقد اعتبرت دائما أن لـ»جوهر الارتباك الأخلاقي» خلال فترة ما بعد الحرب في ألمانيا، ان أولئك الذين كانوا أبرياء تماماً أكدوا شخصياً لبعضهم البعض وللعالم بأسره مدى شعورهم بالذنب، في حين أن عدداً قليلاً جداً من المجرمين كانوا على استعداد للاعتراف حتى بأدنى ندم. كانت نتيجة هذا الاعتراف التلقائي بالذنب الجماعي بالطبع تبييضاً فعالاً للغاية، وإن كان غير مقصود، لأولئك الذين ارتكبوا جرائم ما: كما رأينا بالفعل، فحيث الجميع مذنبون، لا أحد مذنب».

سليم عياش ورياض سلامة

إن قراءة تحليلها لألمانيا ما بعد الحرب يظهر موازاة صادمة مع الوضع في لبنان. يمكن قراءة «جوهر الارتباك الأخلاقي» منذ أكتوبر 2019، وربما منذ الفشل السافر في تنفيذ أو حتى الاستيقاظ كل صباح على الحكم الصادر عن المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، من خلال مفهوم «الذنب الجماعي» Collective Guilt. «ان حزب الله هو الذي قتل الحريري»، وهذا على الأرجح جزء من الجانب العسكري لشعار «كلن يعني كلن». فالنتيجة هي ان سليم عياش حر وربما يتناول وجبة الإفطار في المنزل مع عائلته الآن. ان المنظومة مسؤولة عن ضياع أكثر من 100 مليار دولار مودعة في البنك المركزي، فلماذا نركز على محافظ البنك المركزي الذي خدمها، والذي قد يكون قد عين شقيقه وسيطاً ويدر رسوماً لم تتعد نصف مليار دولار دفعها مستثمرون؟ وهكذا، على هذا النحو، تجيب المنظومة عبر مطبليها الإعلاميين، وتتهم «الطبقة الوسطى» في المجتمع بعدم الامتنان لما كانت ستكون لو لم يربط رياض سلامة صرف الليرة بالدولار.

نظرية التروس والعجلات

ثم تحلل هارنت «التروس والعجلات» للنظام السياسي بالإضافة إلى المغالطة الأخلاقية للمجادلة ببراءتهم:

« من المحتم أن نتحدث عن جميع الأشخاص الذين يستخدمهم النظام بتشبيهها بالتروس والعجلات التي تحافظ على عمل الإدارة. يجب أن يكون كل ترس، أي كل شخص، قابلاً للاستبدال دون تغيير النظام، وهو افتراض تقوم عليه جميع البيروقراطيات، وجميع الخدمات المدنية، وجميع الوظائف بشكل صحيح. وجهة النظر هذه هي وجهة نظر العلوم السياسية، وإذا كنا نتهم أو بالأحرى نقيمها في إطارها المرجعي فإننا نتحدث عن أنظمة جيدة وسيئة ومعاييرنا هي نسبة الحرية أو السعادة أو درجة مشاركة المواطنين، لكن مسألة المسؤولية الشخصية لمن يدير القضية برمتها اصبحت قضية هامشية. فهذا بالفعل ما قاله جميع المتهمين في محاكمات ما بعد الحرب لتبرير أنفسهم: لو لم أكن قد فعلت ذلك، لكان بإمكان شخص آخر أن يفعله».

ثم تشعر هارنت بالارتياح من وضوح الحكم الابتدائي على الرغم من أن الادعاء هو الذي حاول جاهداً جعل أيخمان أكبر ترس على الإطلاق في الرايخ الثالث:

«لأنه كما بذل القضاة جهوداً كبيرة للإشارة له بصراحة، لا يوجد في قاعة المحكمة نظام للمحاكمة، ولا تاريخ أو اتجاه تاريخي، ولا مذهب، ومعاداة السامية على سبيل المثال، بل شخص، وإذا صادف أن يكون المدعى عليه موظفاً، فإنه يواجه اتهاماً على وجه التحديد لأنه حتى الموظف لا يزال إنساناً، وبهذه الصفة يمثل للمحاكمة». من خلال الاستشهاد بتحليل هانا أرندت، أي عملها على الحكم الشخصي أو عدم وجوده في المجتمع الألماني قبل الحرب وما بعدها، وبحثها عن الإحساس بالعدالة في تحليل الحاجة إلى تقديم الأفراد خلف النظام للمحاكمة بسبب مسؤوليتهم الشخصية في الأحداث التي وقعت، وليس السعي اليائس لمقاضاة النظام بحد ذاته، ينبغي الاعتراف ان الشعور بالارتباك في لبنان سيستمر، يا للأسف، حتى ان نجرب واقع المحاكمة الشخصية المحايدة التي تجلب معها كل الحقيقة وكل المحاسبة، ويمكن أن تمهد الطريق للمصالحة الوطنية.

العفو العام المشؤوم

أخيراً، يمكننا العودة إلى 28 آذار 1991، ذاك اليوم المشؤوم الذي وافق فيه مجلس النواب اللبناني على قانون العفو العام (الذي أعفى بأثر رجعي أمراء الحرب اللبنانيين عن المسؤولية القانونية عن جميع الجرائم المرتكبة). «ان السياسة اللبنانية الرسمية بشأن هذه القضية»، كما كتب جيانلوكا سيغا باتل الخبير في حقوق الإنسان، «على الصعيدين المؤسسي والسياسي، يبدو أنها مدعومة بسرد يحبذ النسيان الوطني من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة والسماح للميليشيات السابقة بدخول المسرح السياسي والإدارة العامة». فبعد مضي ثلاثين عاماً علينا ان نعترف بمدى فشل تلك السردية، ولذلك يجب أن نلتقط ما تبقى من وجداننا، وأن نستعيد، بدءاً بالحكم الشخصي، ثم من خلال المطالبة بمحاسبة الأشخاص بموجب القانون، نظامنا الأخلاقي وذاكرتنا التاريخية من أجل أولادنا ومستقبلهم.

MISS 3