أود أرني ويستاد

شرخ جديد بين الصين وروسيا؟

13 نيسان 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس جمهورية الصين الشعبيّة شي جين بينغ
يصعب على كل من يعيش الحرب من الداخل أن يفكر بما سيحصل في المرحلة المقبلة. هذا ما يحدث الآن في الحرب الروسية الأوكرانية. تتأثر معظم الآراء اليوم بالمعاناة التي يعيشها الشعب الأوكراني بسبب عدوان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبغياب الخبرة في هذا النوع من الحروب. هذه العوامل مُجتمعةً تُصعّب علينا توقّع الأحداث المقبلة، لا سيما في ظل تصاعد مخاطر المنافسة بين القوى العظمى بعد الغزو الأخير. قد يبدأ عصر المنافسة المحتدمة والتهديدات الخطيرة ويصبح الوضع أقل استقراراً مما كان عليه خلال الحرب الباردة. سبق وأثبتت تهديدات بوتين باستعمال القوة النووية حجم المخاطر المطروحة في المرحلة المقبلة.

بغض النظر عن طريقة انتهاء هذه الحرب، ستُحدد العلاقة بين روسيا والصين مدى قدرة العالم على تجنّب الحرب بين القوى العظمى. إذا تابعت الصين دعم نظام بوتين في خضم محاولاتها إخضاع الدول المجاورة لها بالقوة، يرتفع احتمال أن ينجرّ العالم في مرحلة معينة إلى مواجهة بين روسيا وأوروبا المدعومة من الولايات المتحدة. وإذا نجحت الصين في كبح مسار بوتين أو تخلّت عن تحالفها معه بالكامل، ستزيد سهولة العودة إلى منافسة أكثر استقراراً بين القوى العظمى. برأي عدد كبير من المراقبين، قد تكون هذه المرحلة مناسبة كي تستفيد الصين وتفيد الآخرين على الساحة الدولية.



لكن لم تقتنص الصين هذه الفرصة حتى الآن. بدل محاولة منع العدوان ضد أوكرانيا، أعطت بكين الضوء الأخضر لبدء الغزو وطالبت بوتين بكل بساطة بتأجيل الهجوم إلى ما بعد الألعاب الأولمبية التي تنظّمها. وحتى لحظة تنفيذ الغزو، كررت وزارة الخارجية الصينية أكاذيب روسيا حول الحرب العدائية المُخطط لها باعتبارها جزءاً من أوهام الغرب. عشية الغزو، اتّهم الصينيون الولايات المتحدة بتأجيج الاضطرابات ونشر الهلع أو حتى تضخيم احتمال اندلاع الحرب. أضاف المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: "أعلن الجانب الروسي في مناسبات متعددة أنه لا ينوي بدء الحرب".

وعندما أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا بعد ساعات قليلة، وقفت الصين على الهامـش ولم تُحرّك ســاكناً، بل اكتفت بطـرح مفاهيم مثالية عن عدم التدخّل واعتـبرت الأميركيين وشركاءهم الأوروبيين مسؤوليـــن عن التحركات الروسـية. سمع الأوكرانيون ومسؤولون آخرون من شرق أوروبا مواقف القادة الصينيين حول "مخاوف روسيا المشروعة بشأن مسائلها الأمنية" و"التعقيدات التاريخية" بين البلدين بأعلى درجات الذهول. حين كانت الصواريخ الروسية تضرب كييف وخاركيف وماريوبول وتدفع حوالى عشرة ملايين مدني للهرب من منازلهم، اتّهمت الصين "حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة بإيصال التوتر بين روسيا وأوكرانيا إلى نقطة الانهيار".

بالنسبة إلى الصين، ستبقى علاقتها مع الولايات المتحدة وأوروبا أهم من روابطها مع روسيا دوماً. على غرار الصينيين خلال الخمسينات، يسهل أن يدرك الروس أن شريكتهم تتفاوض مع واشنطن أو بروكسل أو برلين، ولا مفر من أن تزداد شكوكهم ومشاعر بغضهم حين لا يأخذ الطرف الآخر جميع مصالح موسكو بالاعتبار. تتمتع الصين بمكانة قوية في الاقتصاد العالمي، على عكس روسيا. على المستوى المالي، تملك الصين قدرة هائلة على إقراض الغير، لكنها لن تقرض بالضرورة الاقتصاد الروسي الذي يشهد تراجعاً حاداً، حتى لو رُفِعت العقوبات عن البلد. بعبارة أخرى، قد تُسبب الاختلافات في مكانة البلدَين عموماً مشاكل كثيرة.



على صعيد آخر، يزداد الوضع تعقيداً بسبب علاقات الدول مع الأطراف الثالثة، كما حصل خلال الخمسينات. الهند صديقة روسيا، وقد خرجت عن مسار الغرب للأسف حين امتنعت عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن تبقى الهند في الوقت نفسه عدوة الصين ومنافِستها. في أواخر الخمسينات، كان الصينيون يتّهمون السوفيات بالإصرار على التقرب من الهند، واستمر هذا الوضع بعد الاشتباكات الحدودية الأولى بين الهند والصين. اليوم، تطرح ديناميات القوة إشكالية مشابهة، وهي لا تقتصر على الهند وحدها. من المتوقع أن تتعرض فيتنام، ومنغوليا، ودول آسيا الوسطى، لضغوط متزايدة من الصين، فتتطلّع حينها إلى روسيا لتلقّي الدعم الذي تريده.

لكن ما ستكون نتيجة الحرب في أوكرانيا؟ مثلما سعى الصينيون إلى حصد دعم السوفيات في الحرب الكورية خلال الخمسينات، من المتوقع أن يحاول القادة الروس اليوم الاستفادة من الدعم الصيني لهم في أوكرانيا إذا تدهور وضع الجيش الروسي. وإذا خسرت روسيا الحرب أو اضطرت للتراجع وتقبّل الوضع السابق، كما فعل ماو تسي تونغ خلال الحرب الكورية، لا مفر من تصاعد مشاعر البغض تجاه شريكٍ لم يقدّم الدعم الكافي للحرب. قد يتصرف بوتين مثل ماو في كوريا، فيعتبر استمرار الوضع الراهن انتصاراً له ويجعل عدداً كافياً من الروس يُصدّقه لأسباب قومية وبما يضمن صمود نظامه. لكن ستتأثر العلاقة الثنائية حتماً لمجرّد أن تمتنع الصين عن دعم روسيا.

لكنّ أهم درس يمكن استخلاصه من التحالف الصيني الروسي السابق هو التالي: يتوقف تطور العلاقة الثنائية على الديناميات المحلية في البلدَين وطبيعة العلاقة بينهما أكثر من أقوال الولايات المتحدة وأفعالها. تقضي أفضل استراتيجية أميركية إذاً بمراقبة الوضع والانتظار تزامناً مع استكشاف التصدعات في التحالف فور ظهورها. سيعاقب الغرب روسيا على حربها العدائية وسيتابع التنافس مع الصين ويحاول إيجاد تدابير منطقية، أقله في المجال الاقتصادي. قد تكون هذه الاستراتيجية أفضل ما يمكن فعله على المدى الطويل.

لا يمكن اعتبار روسيا والصين شريكتَين متناغمتَين، إذ تتعدد المسائل التي تُفرّق بينهما. اليوم، يجاهر خبراء السياسة الخارجية في فريق بوتين بأهمية قرار روسيا المرتبط بعقد شراكة مع الصين راهناً ومستقبلاً. لكن يستطيع كل من تواصل مع الطرفَين أن يرصد المخاوف التي تترافق مع ذلك الخيار. يظن هذا المعسكر أن التحالف مع الصين ينجم بكل بساطة عن الحاجة إلى معاداة الغرب ولا يرتبط بأي تماسك طبيعي بين هاتين القوتَين.




يعارض البعض هذا التفسير اليوم، لا سيما في واشنطن، إذ يظن هذا الفريق أن التحالف الصيني الروسي يتّسم بتماسك مستمر أكثر مما توحي به الأحداث راهناً. يعتبر بعض المراقبين الحرب المستجدة في أوكرانيا أول تجربة في الحرب الباردة الجديدة التي تضع كتلتَين قويتَين في صدام واضح. على غرار الحرب الباردة الأصلية، تسود انقسامات إيديولوجية اليوم بين هاتين الكتلتَين وتبرز أيضاً اختلافات في أنظمتهما الاقتصادية. لهذا السبب، ستكون معركة الحرب الباردة الجديدة بين الديمقراطية والاستبداد وبين الاقتصادات المُوجّهة نحو السوق وتلك التي توجّهها الدولة.

لكن ثمة اختلاف كبير اليوم بين الأنظمة السياسية والاقتصادية في الصين وروسيا. الصين دولة شيوعية حيث يحكم الحزب بناءً على الجدارة باسم الشعب، كما يزعم المسؤولون. أما روسيا، فهي دكتاتورية كليبتوقراطية تختبــــئ وراء قناع الديمقراطية. تسيطر الحكومة على الاقتصاد في البلدَين بشكلٍ متزايد، لكن لا تضمن هذه المقاربة أي شكل من التكافؤ. بل أثبتت الحرب الباردة أن الاقتصادات التي تُوجّهها الدول تكون أقل تماشياً مع بعضها البعض مقارنةً بالاقتصادات الرأسمالية. كذلك، يتخذ كل شيء طابعاً سياسياً في الاقتصادات التي تسيطر عليها الحكومة، ما يؤدي إلى تعقيد العلاقات الثنائية بدرجة إضافية. في ما يخص العلاقات الروسية الصينية، تُضاف الاختلافات الثقافية العميقة إلى هذه العوامل.




في ظل هذا الوضع، قد لا تتعلق أنسب مقارنة تاريخية بالحرب الباردة بل بعلاقة ألمانيا والنمسا في بداية القرن العشرين. كانت ألمانيا حينها قوة عظمى ناشئة، على غرار الصين اليوم، وكانت تملك قدرات صناعية وتكنولوجية متوسّعة وراحت تتذمّر من النظام الدولي القائم. وكانت النمسا، حليفة ألمانيا، تشبه روسيا اليوم، ما يعني أنها إمبراطورية في طور التراجع وتكثر خلافاتها مع الدول المجاورة لها وتتعدد صراعاتها الداخلية أيضاً. حتى صيف العام 1914، كان القادة الألمان مقتنعين بأنهم يستطيعون السيطرة على النمسا بما يصبّ في مصلحتهم. سرعان ما تلاحقت الأحداث إلى أن انجرّت ألمانيا إلى الحرب بسبب مخاوف النمسا. يجب أن تتوخى الصين الحذر إذاً كي لا تُكرر الجولة نفسها من الأحداث. أحياناً، يعني السعي إلى تحقيق المصالح الخاصة تحديد تلك المصالح بمعناها الكامل، لا سيما إذا سمحت الظروف بالتقرب من إمبراطوريات مجاورة ضخمة لكن مضطربة.

فيما تُقيّم بكين خياراتها، ما هي الخطوات التي يستطيع الغرب اتخاذها اليوم؟ يبدو جزء من التحركات المرتقبة واضحاً، إذ يجب أن يُحسّن الغرب مستوى تسلّحه، كما تفعل أوروبا راهناً. ويُفترض أن يدعم المقاومة الأوكرانية، ويقوي علاقاته مع الدول الصديقة على طول حدود روسيا والصين، ويفرض ضغوطاً قصوى على نظام بوتين لكن من دون إرسال قواته العسكرية إلى القتال. وعند التواصل مع المسؤولين الصينيين، يجب أن يُشدد صانعو السياسة الغربيون على اعتبارهم الصين مسؤولة ولو جزئياً عن أعمال بوتين العدائية.



لكنّ دعوة بكين إلى التمسك بالمبادئ لا تنفع مع الصين. وحتى الإحراج الدولي الكبير الذي يتعرض له الصينيون يومياً بسبب أكاذيب بوتين وجرائمه العشوائية لن يُغيّر الوضع. لهذا السبب، تقضي أفضل طريقة بتصعيد الضغوط ضد روسيا تزامناً مع إقناع الصين بأن روابطها الوثيقة مع بوتين تنعكس سلباً على استقرار العلاقات الصينية الأميركية أو الروابط الصينية الأوروبية. قد لا يكون إنقاذ أوكرانيا من تصاعد مظاهر الدمار كافياً، لكنه يُضعِف احتمال اندلاع الحرب بين القوى العظمى عبر إقناع جزءٍ من صانعي السياسة الصينية على الأقل بأن مصالح بوتين والصين ليست متناغمة بقدر ما يظن الطرفان اليوم.


MISS 3