خلال توجهي الى الجامعة لألقاء محاضرتي مررت فوق جسر "سن الفيل" وشاهدت تدفقا هائلا لمياه "نهر بيروت" متجها نحو المصب في البحر المتوسط. لذلك، وبتاريخ ٢٥ آذار ٢٠٢٢ قمت بزيارة موقع أثري يبعد حوالي ال ٢٠ كلم عن "بيروت" العاصمة وتحديدا منطقة "الحازمية" ومنها توجهت نزولا نحو منطقتي "جسر الباشا" و"سن الفيل" اي على طول مجرى "نهر بيروت".
تقع في هذه المنطقة قناة اثرية معلقة (Aqueduc) لجر مياه نبع "الديشونية" التي تقع على الضفة اليمين للنهر. تسمى القناة ب"قناطر الست زبيدة" وهي عبارة عن ٣ مستويات من اقنية جر المياه ويبلغ طولها ٢٤٠ متر وارتفاعها ٤٤ متر عن مستوى المجرى الرئيسي. بنيت من الحجر الكلسي (Roche calcaire) في حقبة الإمبراطورية الرومانية بهدف جر مياه الري والشرب إلى مدينة "بيروت" الساحلية (الملقبة بمدينة الآبار نظرا لعدد آبارها التجميعية لمياه الأمطار) والتي كانت تعاني من شح في المياه نظرا لجيولوجيتها الرملية (Quaternaire semi-perméable) واحاتطها بحاجزين طبيعيين هما تلة "الأشرفية" وتلة "المصيطبة". إذ كانت القناة تجر المياه من الحازمية بأتجاه "فرن الشباك" مرورا ب "رأس النبع" ووصولا إلى "بيروت" المدينة (Down town). أما تسميتها "بقناطر الست زبيدة" فتعود، حسب التأريخ، إلى "زنوبيا" ملكة تدمر (القرن الثالث ميلادي) التي استغلت القناة لمشاريعها العمرانية الحديثة في بيروت والى زوجة الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، الملكة "زبيدة"، التي كانت تصطاف في منطقة "برج البراجنة" (نطاق مطار بيروت الدولي). عمدت الملكة إلى تعديل وتحوير القناة بأتجاه قصرها في البرج لري الأراضي الزراعية الواقعة ما بين "الحدث" و "حارة حريك" و "برج البراجنة".
عبر الزمن، تعرضت القناة إلى بعض الانهيارات ولكن فكرة جر المياه بقيت بل تطورت مع مهندسي وزارة الموارد المائية والكهربائية (في سبيعنيات القرن الماضي) إلى استخدام الفائض الشتوي للنهر وحقنه في المياه الجوفية (Recharge artificielle de la nappe phréatique) في آبار محطة "فرن الشباك" بجانب "مستشفى جبل لبنان" والغاية من هذه العملية إيجاد التوازن المائي الجوفي ومحاربة تداخل مياه البحر في اليابسة (Lutte contre l'intrusion saline). في العام ١٩٩٨ تم "تبليط" (تغليف بالخرسانة) مجرى "نهر بيروت" مما منع تغذية المياه الجوفية وزاد الوضع سوءاً بتجميعه للمياه الآسنة وتدهوره البيئي (Dégradation écologique). منذ حوالي ال ٧ سنوات وضمن مخطط لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان قمت بدراسة مجموعة من الابار الجوفية بالقرب من نبع "الديشونية" لإيصال مياهها بالشبكة العامة مما انعكس سلباً على مخزون المياه الجوفية وزاد الوضع سوءا بتملّح المياه الجوفية ولكن ما باليد حيلة سوى تغذية المناطق الساحلية بمياه الشرب.
عند دراسة التدفق السنوي لنهر "بيروت" وجدت بأنه يبلغ حوالي ١٦٠ مليون م3/سنة، تشكل أشهر كانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار ونيسان معدلات متوسطة تبلغ ١٥٠ مليون م3 اي ما يوازي مليون م3/اليوم (لمدة خمسة أشهر) مع العلم ان معظمها تتدفق في البحر من دون استثمارها خصوصا في فترة الشتاء (ركود الحاجات لمياه الري). عمدت خلال زيارتي الميدانية اخذ عينة من مياه النهر وتحليلها فيزيائيا بالأجهزة المحمولة الخاصة وفحصت (Conductivité électrique, température, Oxygène dissout, pH, turbidité, Dioxyde de carbone de l'air). وقد أتت النتائج الفيزيائي مطابقة للمواصفات العالمية لمياه الشرب وبالطبع لم اتطرق إلى التحليل الجرثومي لان معالجته سهلة عبر المواد الكيميائية ( chlorination, ozonation).
أمام هذا الواقع، كان لا بد من اعطاء بعض المقترحات علّها تضفي افكارا تنفيذية لمن بيدهم الأدارة، منها:
- إعادة تفعيل قناة "فرن الشباك" لأعادة حقن الفائض من نهر بيروت إلى الابار الجوفية وتغذيتها بالمياه الحلوة.
- انشاء محطة تكرير للمياه على جانب مجرى النهر قبل وصول مياهه إلى المدينة الصناعية في "المكلس" وربطها بشبكة المياه العامة.
- استخدام مجرى النهر الأساسي (المغلف بالخرسانة) كأحواض لتصفية وترسيب المياه العكرة ولإضافة مادة الكلور وبالطبع إمكانية انشاء خزانات مستطيلة داخل مجرى النهر (مستوى منخفض) ومن دون اللجوء إلى الاستملاكات.
- ربط عمليات التكرير والضخ بطاقة الالواح الشمسية والمنفذة من قبل وزارة الطاقة والمياه والمقدرة بعلى مجرى النهر والمقدرة ب ١ ميغا واط.
- الاستفادة بالجاذبية من مياه النهر الجارية لمدة خمسة اشهر.
عوضاً من دفع أربعة فواتير للمياه وبدل ان يشتري المواطن اللبناني مياه الشرب ومياه الطبخ ومياه الاستخدام المنزلي ويدفع اشتراكه السنوي لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان نجد ان مليون متر مكعب/يوم (كافية لمليون وحدة سكنية يوميا) تذهب هدرا نحو البحر.
ألم يحن الاوان للتفكير بمسؤولية؟