جان كلود سعادة

لبنان على صورة الـ"كارتيل"

29 نيسان 2022

02 : 00


"لكم لبنانكم ولي لبناني". بوقاحة لا توصف أخذت المنظومة مقولة جبران خليل جبران إلى مراتب العبقرية الشريرة ذاتها التي اشتهرت بها. فكأن صاحب كتاب النبي لم يكتفِ من المصائب التي حلّت بذكراه وإرثه في هذا الزمن من كثرة الأنبياء الكَذَبة الذين خطفوا البلد الذي هاجر هو منه لنفس الأسباب التي تدفع أبناء هذا الجيل للكفر بكل شيء والهرب من جهنّم هذه ولو كانت الوسيلة قارب موت حتمي.

إن أخطر ما في المؤامرة المسماة "خطة تعافي" ليس إقتراحاتها بل ذهنيتها وطريقة تفكير "المجموعة" التي وضعتها ويبدو أن لها هي أيضاً لبنان خاصٌ بها، بلد غريب عجيب لا يشبه تاريخنا ولا مستقبلنا بل هو على صورة الكارتيل ومثاله.

ففي حال تم إعتماد أفكار اللجنة المبدعة واقتراحاتها فسيؤدّي ذلك إلى ضرب فكرة لبنان وصورته إلى أجيال قادمة وتحويله إلى بلد عديم المسؤولية فاقد للثقة وسارق لأهل بيته. ومن هذه الناحية تنسجم "الخطة" تماماً مع فلسفة المنظومة في إدارة الأوطان ورعاية أمور الشعوب وخلاصة إبداعاتها في هذا المجال هو أن مصرف الدولة المركزي - مخترع البونزي الكبير - يشفط مئات المليارات من ودائع المصارف التجارية ويصرفها ثم تقرر الحكومة شطبها بشخطة قلم من دون محاسبة ومن دون أن يرُف لها جفن وكل ذلك بهدف وطنيّ كبير وهو "تزبيط الحساب".


الهوية الوطنيّة


في المبدأ، الهوية الوطنية هي الصورة الجامعة التي تتفق عليها غالبية اللبنانيين وتمثّل القناعات الراسخة والتأسيسية لأي كيان والتطلّعات المستقبلية للمجموعة التي تعيش فيه وتتخذه "وطناً". فكما لدى الشركات الكبرى، هذه الهوية نفسها هي التي يجب الإلتزام بها في تصرفات المسؤولين وفي القرارات التي تصدر عن الحكومة ومجلس النواب وجميع أجهزة الدولة. وهذه الهويّة هي ما يجب التعبير عنه في الحملات الدعائية لوزارة السياحة أوالثقافة أو غيرها من الهيئات الحكومية. هذا في الأوضاع الطبيعية. لكننا نعرف أن في لبنان نظريات مختلفة لماهيّة هذا البلد ودوره وبالتالي ليس هناك اتفاق واضح ونهائي على هوية وطنية واحدة وجامعة؛ لكن هذا لا يبرر أبداً الصورة التي تريد المنظومة إيّاها إلصاقها بلبنان.


وحش المنظومة


عدا الخراب الإقتصادي والإجتماعي الذي سينتج عن تنفيذ خطط الحكومة إذا ما تم، فالأخطر هو تغيّر هوية لبنان ووجهه إلى الأبد. فمجموعة الوزراء والمستشارين الذين يضعون الخطط الحسابية ويفاوضون مع صندوق النقد باسمنا جميعاً لا يملكون التفويض الوطني ولا الرؤية الواضحة لمثل هذه المهمة، بل يحاولون بشتّى الطرق تمرير أجندات معروفة.

فعندما تقرر هذه المجموعة شطب 60 مليار دولار من التزامات مصرف لبنان التي هي الودائع وتذويب الباقي بطرق مختلفة مثل التحويل القسري إلى الليرة والتقسيط الطويل الأمد، فهذا يحوّل لبنان إلى دولة فاقدة للثقة وغير قادرة على الإستدانة ولا جذب الإستثمارات على مدى عقود قادمة. أما المودعون من مقيمين ومغتربين وأجانب فلن يضعوا قرشاً واحداً في المصارف اللبنانية على مدى الذاكرة الحيّة والمتوارثة. فالمنظومة التي تدبّج الخطط المدمرة للمجتمع وللمستقبل تريد أن تضع وجهها هي على صورة لبنان المستقبل وتحوّله من بلد فاشل ومتسوّل حالياً إلى وحش سارق ومختلس لمدخرات شعبه.


صلابة اللبناني


لقد قيل وعن حق أن اللبناني يحلّ واقفاً أينما رميته وغالباً ما ينجح كفرد في جميع المجالات أينما وصل به الترحال في دول هذا الكوكب، الأمر الذي نجده طبيعي ومتوقّع. فاللبناني الذي يصارع الشياطين في وطنه يكتسب خبرة وصلابة فريدتين قبل أن يصل دائماً إلى النتيجة نفسها من زمن جبران خليل جبران حتى يومنا هذا، وهو أن الطريق الوحيد إلى العيش في دولة مدنية وعادلة تحترم مواطنيها وترعاهم هو دائماً في الهجرة إلى دولة غريبة غير لبنان.

إن قيامة لبنان بوجه جديد وقيَماً تجمع أبناءه وتلبّي طموحاتهم ممكن، كما أن إنقاذ إقتصاده الصغير ممكن أيضاً لكننا بحاجة إلى ثورة حقيقية تمحي عفن الماضي وليس ثورة إسمية تحمل جميع أعطاب النظام من تفرقة وبغض وتفرّد. لكن الثورة أيضاً لن تكون كافية إذ يجب أن يتبعها بالتأكيد جلسات متتالية لطرد الشياطين.


@JeanClaudeSaade 

MISS 3