المحامي البروفسور نصري أنطوان دياب

بين المصارف والمودعين... في لبنان والخارج

ما مصير الدعاوى والمحاكمات في ظل الكابيتال كونترول؟

9 أيار 2022

02 : 00

أي كابيتال كونترول ينتظرنا؟

موقفنا المبدئي من مصير الودائع المصرفية مُعلَن ومعروف ومنشور منذ سنتين (نيسان 2020): إن أي مسّ بالودائع، تحت أي عنوان وأية ذريعة، هو غير دستوري وغير قانوني وغير أخلاقي. وبالتالي، فان أي قانون يقضي على أي جزء من الودائع مرفوض بالمبدأ، أكان قانون كابيتال كونترول، أو Haircut، أو Bail-in، أو غيرها من القوانين والآليات. الدراسة الحاضرة لا تتطرق إلى قانونية أو ملاءمة مشاريع قانون الكابيتال كونترول (الذي «يرمي إلى وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية») التي يتمّ التداول بها، بل تغطي فقط نقطة واحدة: هل يجب أم لا أن يتضمن هذا القانون مادةً بشأن الدعاوى والمحاكمات الجديدة أو العالقة أمام القضاء اللبناني والأجنبي بين المصارف والمودعين والتي يكون موضوعها عمليات مصرفية ينظّمها هذا القانون (أي عمليات القطع؛ سحوبات نقدية بالعملات الأجنبية؛ تحويلات إلى الخارج؛ وغيرها)؟

ظاهرة تتنافى وطبيعة نظام لبنان الاقتصادي الحرّ وتتنافى وتاريخه الليبرالي

1. إن هدف أي قانون يفرض الكابيتال كونترول هو وضع أُطر قانونية مُقيّدة لعمليات القطع والسحوبات النقدية للعملات الأجنبية وخروجها من البلاد، لفترة زمنية محدّدة يستعيد خلالها الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي عافيتهما، كي يعود الوضع إلى طبيعته. إن القانون الدولي العام يعترف بحق كل دولة بوضع ضوابط للتبادلات الدولية، وإذاً لنقل رؤوس الأموال عبر الحدود، شرط أن لا تكون هذه الضوابط تمييزية أو حمائية. هناك عدة أنواع من الكابيتال كونترول: قيود على الأموال التي تدخل إلى البلاد، أو على الأموال التي تخرج منه، أو على الاستثمارات الأجنبية، وغيرها من القيود. إختار لبنان أحد أنواع الكابيتال كونترول، وهو الذي يهدف إلى وضع قيود على خروج الأموال من البلاد. تاريخياً، لم يكن صندوق النقد الدولي مشجّعاً لمبدأ الكابيتال كونترول، وكان يعتبر أنه من الأفضل العمل على تعديلات ماكرو إقتصادية (Macroeconomic Adjustments) ومراقبة القطاع المالي. إن ولوج لبنان طريق وضع ضوابط على حرّية حركة رؤوس الأموال عبر الحدود يشكّل ظاهرة تتنافى وطبيعة نظامه الاقتصادي الحرّ المكرّس في الفقرة (و) من مقدمة الدستور، كما وتتنافى وتاريخه الليبرالي. كل هذا يدلّ على صعوبة المرحلة التي يمرّ فيها الاقتصاد الوطني.

الإبقاء على الدعاوى والمحاكمات ينسف الهدف من مشروع القانون

2. لن يفي أيّ قانون كابيتال كونترول بالغرض إذا لم يندرج في إطار خطّة تعافٍ اقتصادي شاملة تتضمن إجراءات وقوانين أخرى. فقانون الكابيتال كونترول ليس هدفاً بحدّ ذاته، بل هو مجرّد وسيلة لحماية تطبيق خطة شاملة تكون هي العلاج الأساسي للوضع الاقتصادي والمالي، وتتضمن إصلاحات جذريّة وبنيويّة تؤمّن عودة الثقة بالنظام المالي والمصرفي اللبناني. قبل القانون، المنطق: بما أن هدف قانون الكابيتال كونترول هو الحدّ من خروج العملات الأجنبية من لبنان، فإن الإبقاء على الدعاوى والمحاكمات ينسف هذا الهدف؛ فكيف يُمكن حظر خروج الأموال من لبنان بمشيئة الفرقاء، والسماح بخروجها بقرار قضائي؟ هل يُعقل أن يُحظَّر على المودع الطلب من مصرفه تحويل أمواله إلى الخارج، وأن يُسمَح له أن يطلب من القاضي أن يأمر المصرف بهذا التحويل؟

ثغرات ستنتج تخبّطاً في القرارات القضائية وعدم مساواة بين المودعين

3. يجب الأخذ بالاعتبار ثلاث حالات ممكنة، وتحليل نتائجها: الحالة الأولى التي يكون فيها العميل قد أعطى، قبل دخول قانون الكابيتال كونترول حيّز التنفيذ، تعليمات للمصرف بتحويل أموال إلى الخارج، ورفض المصرف الإمتثال إلى هذه التعليمات، ولم يتقدّم العميل بدعوى ضدّ المصرف. والحالة الثانية التي يكون فيها العميل قد أعطى، قبل دخول القانون حيّز التنفيذ، تعليمات للمصرف بتحويل أموال إلى الخارج، ورفض المصرف الإمتثال إلى هذه التعليمات، وتقدّم العميل بدعوى ضدَّ المصرف، ولم يصدر بعد حكم مبرم بشأنها. والحالة الثالثة التي يكون فيها العميل لم يعطِ، قبل دخول القانون حيّز التنفيذ، تعليمات للمصرف بتحويل أموال إلى الخارج (وبالتالي، لم يتقدم بأي دعوى ضدّ المصرف)؛ ولا يعود يحق له أن يعطي هكذا تعليمات، عملاً بأحكام هذا القانون. من الواضح أنه، في غياب أحكام في قانون الكابيتال كونترول ترعى مسألة الدعاوى والمحاكمات، من شأن كل من هذه الحالات الثلاث أن تؤدي إلى نتائج مختلفة، ما سيُنتِج حتماً تخبّطاً في القرارات القضائية وأيضاً عدم مساواة بين المودعين، وإلى نسف الهدف الأساسي من هذا القانون من خلال الإبقاء على إمكانية خروج أموال من لبنان ليس بإرادة الفرقاء بل بأمر قضائي وبمجرّد إقامة دعاوى جديدة و/أو السير بمحاكمات إنطلقت سابقاً.

إعطاء الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي فترة سماح لاستعادة عافيتهما

4. يقتضي إذاً إدراج مادة في قانون الكابيتال كونترول تُعلَّق بموجبها، بشكل مؤقت، كافة المحاكمات العالقة أمام القضاء اللبناني وتمنع إقامة دعاوى جديدة طيلة فترة تطبيق القانون، وذلك لسببين: السبب الأول هو أن الهدف الأساسي لإقرار قانون الكابيتال كونترول يكمن في إعطاء الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي فترة سماح لاستعادة عافيتهما بوقف نزيف التحويلات إلى الخارج، كيّ تتمكن المصارف لاحقاً، مع عودة العجلة الاقتصادية إلى الدوران والنشاط المصرفي إلى طبيعته، من إعادة أكبر نسبة ممكنة من الودائع إلى أصحابها. والسبب الثاني هو أن المساواة بين المودعين تشكّل الأساس لكلّ حلّ عادل لمشكلة الودائع. فلا يمكن حظر تقديم دعاوى جديدة وفي الوقت ذاته السماح باستكمال المحاكمات العالقة، وإلّا فيكون قد حصل تمييز غير مشروع بين المودعين الذين قدّموا دعاوى قبل دخول قانون الكابيتال كونترول حيّز التنفيذ من جهة، والمودعين الذين لم يقدّموا دعاوى ويُمنع عليهم تقديمها لاحقاً من جهة أخرى؛ ما يخالف أحكام الفقرة (ج) من مقدمة الدستور التي كرّست مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.

بوجود الكابيتال كونترول... القاضي الأجنبي يطبّق القانون اللبناني في أغلب الأحيان

5. أما بالنسبة إلى الدعاوى المُقامة أو التي ستقام في الخارج بين المصارف اللبنانية ومودعيها، وعملاً بقواعد القانون الدولي الخاص، من قواعد تنازع الاختصاص القضائي وقواعد تنازع القوانين، فإن القاضي الأجنبي، إذا اعتبر نفسه مختصاً للنظر في هكذا دعوى، يطبّق في أغلب الأحيان القانون اللبناني على هذه الدعوى، وليس قانونه الوطني. فإذا رأى هذا القاضي الأجنبي أنه يوجد قانون كابيتال كونترول في لبنان، وإذا كان هذا القانون قد تضمّن أحكاماً (ولو ضمنيّة) تفيد بأنه قانون إلزامي يتعلّق بالانتظام العام الاقتصادي (Ordre public économique)، فمن المرجّح أن يأخذ القاضي الأجنبي بهذا القانون ويردّ الدعوى المقدّمة أمامه، حتى بغياب مادة فيه تتعلّق بالدعاوى والمحاكمات. إن القانون ذا الطابع الإلزامي يَعبُر الحدود مع طابعه الإلزامي، وعلى القاضي الأجنبي، الذي يستقبله عملاً بقواعد تنازع القوانين المعمول بها لديه، أن يحفظ له هذا الطابع الإلزامي، إلّا إذا تعارض هذا القانون الإلزامي مع النظام العام للقاضي الأجنبي. على سبيل المثال، فإن القاضي البريطاني Justice Picken، في محكمة العدل العليا في لندن، أعطى، في قراره الصادر بتاريخ 25 آذار 2022 في الدعوى المقامة من السيد مانوكيان بوجه مصرفين لبنانيين، إشارة واضحة إلى أنه لو كان موجوداً قانون كابيتال كونترول في لبنان، لكان أخذ به وطبّقه، ولما كان حكم لصالح المودع وأمر المصرفين بتنفيذ طلب التحويل إلى الخارج. إن منع تقديم دعاوى جديدة في الخارج في ظل قانون الكابيتال كونترول هو حلّ مناسب: فالمودع المقيم في لبنان والذي لا يملك ما يكفي من الأموال لتقديم دعوى في الخارج و/أو الذي لا يشكّل وضعه القانوني رابطاً لاختصاص القاضي الأجنبي بسبب عدم توافر عناصر ارتباط (Liens de rattachement) تُؤسس لهذا الاختصاص، لن يتمكن من إقامة دعوى في الخارج؛ وبالتالي، فإن المودعين القادرين على تقديم هذا النوع من الدعاوى في الخارج فقط سيحصلون على أموالٍ من المصارف اللبنانية، خاصةً أن بامكانهم التنفيذ الجبري على أصول المصارف اللبنانية الموجودة في الخارج، من أرصدة حسابات لدى المصارف المراسلة وغيرها من الأصول (وهذا أمر غير متاح للمودعين الآخرين)؛ فلن ينال المودعون الآخرون شيئاً.

حصر الدعاوى والمحاكمات بالتحويلات إلى الخارج والسحوبات النقدية بالعملات الأجنبية وعمليات القطع

6. يجب أن تنصّ أحكام قانون الكابيتال كونترول التي تتناول مسألة الدعاوى والمحاكمات على أنها لا تتعلق سوى بالدعاوى والمحاكمات التي يكون موضوعها تحديداً إحدى العمليات المصرفية التي يشملها القانون، أي حصراً التحويلات المصرفية إلى الخارج والسحوبات النقدية بالعملات الأجنبية وعمليات القطع؛ خاصةً أن هذه العمليات وحدها تدخل في صميم هذا القانون، وأن إمكانية ممارستها من قبل بعض الأشخاص دون غيرهم ينسف أسس قانون الكابيتال كونترول وغاياته كما المساواة بين المودعين. فكل سائر جوانب العلاقة المصرفية بين المصارف وعملائها وسائر العمليات لا تشملها هذه الأحكام، وتبقى الدعاوى والمحاكمات متاحة بشأنها. كما يجب أن تنصّ هذه الأحكام على أن الدعاوى والمحاكمات تكون معلّقة (وغير مُلغاة) لفترة محددة، هي مدّة نفاذ قانون الكابيتال كونترول.

إخضاع العقود القديمة إلى أحكام القانون الجديد إذا توفرت مصلحة عامة ضرورية

7. من المفيد التذكير بالمبادئ الأساسية لتنازع القوانين في الزمن. فعملاً بمبدأ المفعول الفوري للقوانين (Effet immédiat)، لا تنطبق أحكام القانون الجديد على العقود المُبرمة قبل دخول هذا القانون الجديد حيّز التنفيذ؛ بحيث إن تلك العقود تبقى خاضعة للقانون القديم الذي أُبرمت خلال فترة نفاذه (Survie de la loi ancienne). إلا أنه يمكن للمشترع أن يُخضِع العقود القديمة إلى أحكام القانون الجديد (دون أن يشكّل ذلك مفعولاً رجعياً – Effet rétroactif)، ويحصل ذلك عادةً في الحالات التي تكون فيها المصلحة العامة ضرورية (Impérieux) وتفرض ذاتها على استقرار العلاقات التعاقدية. نجد في فرنسا أمثلة عن قوانين كهذه منذ القرن التاسع عشر، وبوجه التحديد في المسائل النقدية عند نشوء أزمات تفرض اتخاذ إجراءات بموجب قوانين آمرة تنطبق حتى على العلاقات القانونية التي كانت قائمة قبل دخول هذه القوانين حيّز التنفيذ. وقد عاشت فرنسا، حتى الربع الأخير من القرن العشرين، حالات اقتصادية حرجة إضطرت فيها لإقرار قوانين تحدّ من حريّة التحاويل المالية. من المؤكد أن قانون الكابيتال كونترول اللبناني يدخل في خانة القوانين التي تفرض ذاتها على العقود (المصرفية) القائمة، وان الظروف الخطيرة التي فرضت إقراره تتعلّق بالمصلحة العامة الضرورية.

يؤدي إقرار بعض القوانين تلقائياً إلى الحدّ من حق التقاضي وإلى تغيير القواعد التعاقدية

8. من الضروري الإشارة إلى أن النظام القانوني اللبناني يتضمن عدداً من القوانين أُدرجت فيها أحكام خاصة بالدعاوى والمحاكمات المتعلقة بالمسائل التي تحكمها هذه القوانين؛ كما ان مجرّد إقرار بعض القوانين الأخرى أدّى تلقائياً إلى الحدّ من حق فرقاء العقد بالتقاضي وإلى تغيير القواعد التعاقدية المعمول بها لهذه الغاية. فالمادة التي سيتضمنها قانون الكابيتال كونترول بهذا الخصوص لن تكون إذاً يتيمة. على سبيل المثال لا الحصر، نذكر قانون «تقسيط ديون التجّار المتضررين بسبب الأحداث» الصادر في عام 1981؛ فمجرّد فرض على الدائن تقسيط دينه لفترة محددة دون موافقته، يُفقد الدائن حق مداعاة مدينه لمطالبته بتسديد الدين طيلة هذه الفترة. ونذكر أيضاً قانون «تعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية الخاصة بالقروض المتعثرة وإلغاء أو تخفيض الغرامات» الصادر في عام 2022 والذي يعلّق «جميع الإجراءات القانونية والقضائية والعقدية التي يُباشر بها خلافاً لأحكام هذا البند، وتتوقف مهلة مرور الزمن المسقط للحق خلال مدة نفاذه».

يجوز للمشترع تقييد حق التقاضي وتأجيل ممارسته شرط ألا يؤثّر ذلك على أساس الحق

9. أخيراً، لا نرى في الأحكام القانونية التي تعلّق الدعاوى والمحاكمات التي تتناول مسائل معيّنة ولفترة زمنية محدّدة مخالفة للحقوق الأساسية (Droits fondamentaux). فاذا كان حق التقاضي هو من أهم الحقوق الأساسية، إلّا أنه يبقى جائزاً للمشترع أن يضع له بعض القيود وأن يؤجّل ممارسته في الزمن إلى تاريخ لاحق، شرط ألّا يؤثّر ذلك على أساس الحق. كما أنه لا يمكن القول إن ذلك يشكّل نوعاً من الاستنكاف عن إحقاق الحق لغياب طريق مراجعة قضائية، لأن طريق المراجعة القضائية ليس موصداً، بل فقط معلّقاً لفترة زمنية محددة.


MISS 3