ساندي الحايك

عكّار: الثورة مرّت من هنا... ولكن

29 تشرين الأول 2019

02 : 00

"عكار عاصمة الشمال. ليست قرية. إنها مدينة أيها السادة. لماذا لا تفهمون؟ لماذا لا تنصتون؟". هكذا صرخ الناشط ناصر سليمان أمام عدسات الكاميرا والصحافيين. صوته كاد يختنق وهو يُعدد مقهوراً احتياجات عكار. مطالب المحافظة الممتدة على مساحة 788 كلم مربعاً، لا تقتصر على إسقاط النظام الطائفي ومحاكمة الفاسدين، حرمانها الممنهج من أدنى حقوقها يُلزم أبناءها المناداة بأعلى صوت مطالبين بحقوقهم البديهية قبل أي شيء آخر. يطالبون بمرفأ على طول الخط الساحلي الممتد من العبدة حتى العريضة وبتشغيل مطار القليعات. يطالبون بمستشفى حكومي لائق وبفرع للجامعة اللبنانية وكلية بحرية ونافعة. يهتفون من اجل حقهم بشبكة طرق وصرف صحي وبنى تحتية. يصرخون لإقرار التصنيف البيئي والسياحي لقراهم وبلداتهم التي شُرّعت نوافذها على الملل في غياب الزائرين والسيّاح.

تطول اللائحة، ومع كل مطلب تزداد قبضات الغاضبين المحتشدين في ساحة حلبا حدّة، وتقوى صرخات حناجرهم فتتحول كلماتهم إلى خناجر، علّها تخترق منازل الزعامات التقليدية فيها. لم ترتعد الحشود أمس من غزارة الأمطار. شبك المتظاهرون أيديهم تحت المظلات وتقدموا بثبات مرددين "ليل ورعد وبرد وريح الدني برا مجنوني عن الطريق مش رح نزيح حتى تسقط الحكومي". وضعوا بالقرب من خيمة الاعتصام صندوقاً لجمع التبرعات، علقوا عليه ورقة كتب عليها: "صندوق التبرعات مضاد للسفارات والتخوين". فكما درجت العادة في مختلف المناطق اللبنانية تُطلق الشائعات للنيل من هيبة الحراك والتقليل من عزيمة المتظاهرين. وفي عكار، حاول كثيرون تشويه صورة التظاهرات سعياً لإجهاضها. ووفق سليمان "ما يحدث في عكار لا يروق لكثيرين ولكننا مستمرون ولن نتراجع إلى حين تحقيق مطالبنا"، موضحاً أن "مشكلة عكار مع الدولة اللبنانية قديمة العهد وعمرها من عمر تأسيس هذه الجمهورية. لفها التهميش منذ عقود ولم يستطع أي شخص، ممن ادعوا تمثيلها، رفع الظلم عنها"، لافتاً الانتباه إلى أن "أي حلّ سياسي أو تعديل وزاري أو نهج إصلاحي لا يلحظ حقوقها لا يُمكن التعويل عليه، فالتغيير يبدأ من هنا، وهذا الكلام نقوله لكل شركائنا في الوطن فلا تُضيعوا البوصلة". وشدد على أن "مطالب الثورة في كفّة ومطالب أهالي عكار في كفّة أخرى، فنحن نُصر على أن تُمثل المحافظة بوزارة أو مجلس إنماء لرفع الغبن المزمن عنها".

لن يحتاج الغريب عن المحافظة الكثير من الوقت ليتبيّن نكبتها. الأوتوستراد الدولي فيها يخلو من حائط فصل بين المسلكين الشرقي والغربي. طرقاتها الجبلية من دون جدران دعم. تنتشر الفوضى في مبانيها ويغيب التخطيط المدني عن عمرانها ويطبع الفقر بصمته على معظم قراها. ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال الإقبال في ساحة الاعتصام وسط منطقة حلبا خجولاً. ما السبب؟ لماذا لم ينتفض فقراء عكار على غرار سواهم؟ ألم يلمس الناس في ثورة لبنان فرصة للتحرر من ثقل الحرمان؟ قطع سليمان الباب على وابل الأسئلة قائلاً: "النشاط المطلبي هو عملية تراكمية، ونتيجة للظروف والفقر المدقع المترافق مع غياب الوعي، لم تشهد عكار هذا النوع من الانتفاضات الموحدة والخارجة عن كل قيد طائفي ومذهبي إلا نادراً، لكننا رغم ذلك متفائلون. أضف إلى ذلك أن لعكار خصوصية عن سواها، فهي محافظة كبيرة وقراها وبلداتها بعيدة عن بعضها البعض، ما جعلنا نعاني مشاكل لوجستية. فضلاً عن تحرك بعض الشبان الحزبيين ضدنا وقيامهم أكثر من مرة بقطع الطرق على المتظاهرين بغية منعهم من الوصول إلى ساحة حلبا. في حين، لم نُقدم نحن على هذه الخطوة ولم نقطع الطريق أمام أحد، ولا سيما أن غالبية أبناء المنطقة تتمركز أشغالهم في نطاق بيروت وجبل لبنان وعليهم الذهاب والعودة كل يوم".

وعن الأشغال والمهن تحدث سليمان بحسرة. هو متخرج من الجامعة اللبنانية بتقدير جيد لكنه عاطل من العمل منذ أربع سنوات. لا مصانع في عكار ولا معامل. لا مؤسسات خاصة ولا شركات ضخمة. طموح الشاب العكاري بحسب سليمان يتلخص بحلم واحد: "الالتحاق بصفوف الجيش اللبناني". ويقول: "لم يُترك لنا مجال لكي نحلم بشيء آخر. منذ نعومة أظافره ينتظر العكاري اليوم الذي سيتطوع فيه في صفوف الجيش أو الأمن الداخلي أو الأمن العام. لا مجال هنا لممارسة أي مهنة أخرى. إما السلك العسكري أو البقاء في المنزل. وحتى دخول الأسلاك الأمنية ليس بالأمر السهل، بل يشوبه الكثير من التذلل لدى المسؤولين والزعماء إستعطاء لواسطة من هنا ودعم من هناك". ساد الصمت في خيمة الاعتصام فجأة وكأن سليمان وضع بكلامه الإصبع على الجرح النازف منذ سنين. لكنه ما لبث أن رفع عينيه نحو رفاقه وأردف: "الغصة كبيرة ولكن الزمن الآن هو للتغيير، فلن يعيش أطفالنا ما نعيشه، وسنُخرّج مهندسين وأطباء وعلماء وسيعملون في محافظتهم من دون نزوح ولا هجرة".

في خضم معركتهم لفت الناشطون النظر إلى تهميش من نوع آخر يطاولهم. تكرر العتب على ألسنتهم. لاموا الإعلام واتهموه بـ"التعتيم على انتفاضتهم". ويقول بشار نعمان، أحد الناشطين، إن "على وسائل الإعلام أن تكون منصفة. نحن سنبدأ المطالبة بتغطية متوازنة عوض الإنماء المتوازن، وكأنه كُتب علينا تسوّل التعاطف الإعلامي أيضاً"، مضيفاً: "لا تلتفت وسائل الإعلام نحونا إلا عند وقوع أي حدث أمني، وغالباً ما يتم استثمار تلك الأحداث ضدنا واتهام بعض مناطقنا بالإرهاب". سلوك وسائل الإعلام "غير المهني" على حد تعبيره دفع بشباب الثورة إلى إنشاء إعلامهم الخاص عبر نشر الفيديوات والصور على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.

وشدد نعمان على أن "الضغط السياسي والعشائري المُمارس في بعض القرى العكارية يُقيّد حركة الناس، خصوصاً أن بعضهم مرتهن بلقمة عيشه لسياسي أو زعيم"، موضحاً "أننا كناشطين في انتفاضة عكار بدأنا العمل على نشر الوعي لدى الناس وتعريفهم بحقوقهم الأساسية وحثّهم على النزول إلى الشارع والمطالبة بها وصولاً إلى حدّ انتزاعها".


MISS 3