على ترامب أن يطرد تركيا من حلف الناتو!

02 : 04

أنقرة لم تعد حليفة مفيدة للأميركيّين منذ فترة طويلة. ما الذي يجعلنا نواجه المشاكل في سبيل عدد هائل من بلدان الشرق الأوسط أصلاً؟ ولماذا هذا التمسّك ببقاء تركيا في حلف شمال الاطلسيّ رغم أنها ليست حليفة بالمعنى الحقيقي؟

أخفق الرئيس دونالد ترامب بشكلٍ مريع في السياسة الخارجية الأميركية. يكفي أن نفكّر بفشله في سوريا...

طوال سنة، عبّر ترامب عن رغبته في سحب القوات الأميركية، لكنه فشل في التحرك بسبب ضغط مساعديه الذين أقنعوا أكراد سوريا بالوثوق بواشنطن. سرعان ما انهارت نقاشات الأكراد حول الانضمام إلى حكومة دمشق التي كانت تستطيع السيطرة على الحدود ومنع تقدّم القوات التركية. ثم أعلن الرئيس الأميركي فجأةً عن رحيل الجنود الأميركيين، ما أدى إلى بدء الغزو التركي بشكلٍ شبه فوري. هكذا انسحبت القوات الأميركية سريعاً وتلقى الأكراد دعوة يائسة للانضمام إلى الجيش السوري.

ثم استنكر الرئيس تصرف أنقرة لأنها نفذت ما كانت تخطط له منذ فترة طويلة، وهدد بـ"تدمير الاقتصاد التركي والقضاء عليه بالكامل". لكن أصرّ نائب الرئيس مايك بينس على أن "الولايات المتحدة لن تتحمل بكل بساطة الغزو التركي في سوريا". أعلنت الإدارة الأميركية عن خليط من العقوبات الاقتصادية والشخصية، بينما اقترح المشرعون الأميركيون تدابير إضافية وأكثر صرامة. حثّ وزير الدفاع مارك إسبر من جهته الدول الأعضاء في حلف الناتو على اتخاذ "التدابير الديبلوماسية والاقتصادية" اللازمة ضد تركيا.

ثم وقع ذلك الانقلاب الجذري في مسار السياسة الخارجية، حين تخلّت الإدارة عن موقفها المتشدد وتفاوضت على وقف إطلاق النار، ما منح أردوغان كل ما كان يتمناه. في غضون ذلك، تشاجرت الحكومات الأوروبية مع أمين عام حلف الناتو على خلفية طريقة التعامل مع أنقرة المنتسبة إليه، كونها تعيق أهدافه في سوريا. ثم زاد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حدة مواقفه وأوحى بأن واشنطن قد تهاجم تركيا رداً على تحركها الأخير. صحيح أن الإدارة الأميركية تفضّل السلام، لكن أضاف بومبيو: "إذا برزت الحاجة إلى أي خطوة مغايرة أو تحرك عسكري، يجب أن تعرفوا أن الرئيس ترامب على أتمّ استعداد لتنفيذ ذلك التحرك".

مع ذلك، تجاهل أردوغان مطالب واشنطن، فردّ على تهديدات الولايات المتحدة وحلفائها قائلاً: "نحن مصمّمون على تنفيذ عملياتنا حتى النهاية. سننهي ما بدأناه".

لا يمكن أن تصبح سياسة الرئيس ترامب مفككة وغريبة وغير متماسكة وخطيرة أكثر من ذلك!

ورغم التعاطف شبه العالمي مع الأكراد، إلا أن دُوَيْلتهم "روج آفا" ليست حليفة الأميركيين. لم يتفاوض أي رئيس على معاهدة معها، ولم يصادق أي مجلس شيوخ على معاهدة معها، ولم يفسّر أي مسؤول في البنتاغون نطاق أو مدة الالتزام الأميركي فيها.

في المقابل، شكّلت تركيا جزءاً من حلف الناتو لأكثر من 67 سنة. ونشرت الولايات المتحدة طاقمها في أنقرة وتعاونت معها لسبعة عقود تقريباً، وحاربت القوات التركية إلى جانب الأميركيين في الحرب الكورية. وعلى مر الحرب الباردة، اعتُبِرت أنقرة عائقاً أساسياً أمام التوسع السوفياتي في الشرق الأوسط.


طالما تبقى تركيا شريكة في الحلف، من واجب الولايات المتحدة أن تعطيها الأولوية قبل أن تهتم بمخاوف شركائها الجدد والأقل رسمية. أما الادعاءات الجنونية التي تعتبر أن أحداً في العالم لن يثق بالولايات المتحدة مجدداً إذا لم تدافع واشنطن عن الأكراد، فهي تتحدى التاريخ. تتخلى الولايات المتحدة ومعظم القوى العظمى الأخرى (وحتى القوى المتوسطة) عن حلفائها دوماً، خدمةً لمصالحها عند الحاجة.

سبق و"خانت" واشنطن الأكراد خلال السبعينات، حين انتقلت إيران من المواجهة إلى عقد تسوية مع العراق. هذا ما فعلته أيضاً بكل فخر منذ سنتين، حين نظّم إقليم كردستان العراق استفتاءً حول استقلاله. فوقفت واشنطن جانباً فيما أطلقت حكومة بغداد هجوماً عسكرياً. تخلى المسؤولون الأميركيون عن حلفاء آخرين أيضاً، مثل فيتنام الجنوبية وجمهورية الصين (تايوان)، ومن المتوقع أن تواجه أفغانستان قريباً الموقف نفسه.كذلك، يُعتبر وفاء واشنطن لحليف قديم ورسمي أهم بكثير من روابطها العابرة التي تتوقف على شن عملية جوية أميركية واسعة لدعم أحد الأطراف المتناحرة الكثيرة داخل دولة أخرى. لذا يبقى تجاهل مخاوف أنقرة القديمة والمعلنة أسوأ بكثير بنظر أصدقاء الولايات المتحدة. وإذا لم تكن واشنطن أمينة لأهم شركائها، لا مفر من التساؤل: من يستطيع الاتكال على الدعم الأميركي؟

لكن من الواضح أن تركيا لم تكن حليفة جيدة بأي شكل في الفترة الأخيرة، فقد اتخذ الرئيس رجب طيب أردوغان منحىً استبدادياً وإسلامياً واضحاً. تتابع حكومته احتلال جزء كبير من قبرص وتثير المشاكل على الحدود مع اليونان. والأسوأ من ذلك هو أن أنقرة تعتبر محاربة الأكراد أهم من محاربة "داعش". في بداية الصراع السوري، قدمت تركيا المساعدة لتنظيم "داعش"، وربما استفاد ابن أردوغان من تجارة النفط غير المشروعة. والأسوأ بعد، من وجهة نظر حلف الناتو على الأقل، هو حصول تقرّب من تحت الطاولة بين الرئيسَين التركي والروسي.

تكثر المخاطر المحتملة لاستمرار التعامل مع تركيا كدولة عادية من الدول الأعضاء في الناتو. تجمع أنقرة المعلومات الاستخبارية اللازمة وتؤثر على السياسات والعمليات. كذلك، يُقال إن الولايات المتحدة تخزّن حوالى 50 قنبلة نووية في قاعدة "إنجرليك" الجوية. ولا شك في أن أي محاولة لتدمير الاقتصاد التركي، أو حتى الرد عسكرياً على التحرك التركي في سوريا، ستجبر أردوغان على الرد مجدداً، ولو لمجرّد الحفاظ على سمعته الوطنية. قد تحاول حكومته مصادرة تلك الأسلحة، ما يرسّخ في الوقت نفسه طموحاته بتحويل أنقرة إلى قوة نووية.

بدل شجب أفعال أنقرة ومعاقبتها، يجب أن يعالج الأميركيون والأوروبيون مشكلة عضوية تركيا في الناتو. حين كان الحلف قيد التفاوض، دعم المسؤولون الكنديون والأميركيون إنشاء مسار لمعالجة هذه المشكلة بالذات: وجود دولة بدأت حكومتها تبتعد عن القيم الديموقراطية. لكن يقول المؤرخ تيم سايل إن البريطانيين والفرنسيين عارضوا هذه الفكرة، لذا تم التخلي عنها. وحين سُئل السيناتور آرثر فاندينبرغ عن هذا الاحتمال، أجاب: "في ظل ظروف مماثلة، لا يعود الميثاق ساري المفعول بالنسبة إلى هذه الأطراف بكل بساطة".

لكن لا تنطبق هذه القاعدة على تركيا. تفرض واشنطن عقوبات اقتصادية على إحدى الدول الأعضاء في الحلف وتهددها بشن الحرب، بينما علّقت ست دول أوروبية عمليات بيع الأسلحة. هذا الخلاف يُضعِف قيمة الحلف بحد ذاته. حان الوقت إذاً لإعادة إحياء اقتراح طرد تركيا من الناتو.لم تكن تركيا التي نشأت على صورة مصطفى كمال أتاتورك منارة لليبرالية طبعاً، لكن برزت دعوة إلى تخفيض التكاليف على جميع المستويات خلال الحرب الباردة، حين أصبح الاتحاد السوفياتي مصدر تهديد. عكست تلك الدعوة فكرة جين كيركباتريك الشهيرة حول ضرورة التمييز بين الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارية: يسمح تقبّل الخيار الأول بتجنب الثاني.

لا يمكن التأكيد على صحة ذلك التحليل لأنه يبقى مثيراً للجدل. لكن لا حاجة إلى تطبيق فكرة مماثلة اليوم، ولو نظرياً. يُفترض ألا يتقبل حلف ملتزم بالقيم الليبرالية والديموقراطية اتخاذ أنقرة منحىً عدائياً واضحاً. سيكون طردها أو تعليق عضويتها رداً مناسباً على سلوكها. أو يستطيع الناتو على الأقل أن يبتكر شكلاً من العضوية المساعِدة، ما يعني إلغاء أي دور قيادي وضمانات أمنية تلقائية.

سترفض أنقرة على الأرجح أي محاولة لتخفيض مكانتها في الناتو، ما يسمح بِحَلّ الجدل الراهن. لكنّ تركيا ليست الدولة الوحيدة التي تثير المتاعب في الحلف. يسهل أن نتوقع اتخاذ عددٍ من الدول الأعضاء في أوروبا الوسطى والشرقية والبلقان منحىً استبدادياً أيضاً. يبالغ من يظن أن المجر اتخذت هذا المسار أصلاً، لكن يمكن القول في أفضل الأحوال إن مسار الإصلاح في بلدان كثيرة لم يكتمل بعد.

وكلما اتجهنا شرقاً، تتراجع أهمية البلدان بالنسبة إلى الأمن الأميركي وتزيد التداعيات المحتملة والمرتبطة بروسيا. للحد من المشاكل المستقبلية، يتعين على الولايات المتحدة أن تتوقف عن التحالف تلقائياً مع أي بلد أو مجموعة. كان ضمّ مونتينيغرو أشبه بإضافة دوقية "غراند فينويك" في رواية The Mouse that Roared (الفأرة التي تهدر). حتى أن ضم شمال مقدونيا يبدو منطقياً بدرجة إضافية.

أما ضم جورجيا و/أو أوكرانيا، فسيكون أشبه بدعوة إلى الحرب مع موسكو، الهدف المعاكس المزعوم للحلف. حتى أن رفع العلاقات غير الرسمية إلى مستوى التحالف سيطرح مشاكل إضافية. على سبيل المثال، أغرق أكراد سوريا الولايات المتحدة في منطقة متقلّبة، وسط عدد كبير من المقاتلين المحتملين، مقابل منافع أمنية ضئيلة.

من الأفضل تطبيق سياسة غربلة الدول الأعضاء في الحلف (ثمة سبب وجيه لإعادة النظر بدور الولايات المتحدة في الناتو، لكن يتطلب هذا الخيار تحليلاً موسّعاً). اليوم، يجمع صانعو السياسة الأميركية الحلفاء مثلما يجمع الناس الأصدقاء على فيسبوك! لكنّ الوفرة بالعدد لا تضمن الجودة! في ما يخص الشرق الأوسط تحديداً، سيتحسن وضع الولايات المتحدة حتماً حين تُخفّض عدد حلفائها هناك، بدءاً من تركيا.


MISS 3