الدكتور طلال عتريسي

الإسلام السياسي: تجارب واتجاهات

28 أيار 2022

02 : 00


تتحدث بعض الدوائر الاكاديمية والبحثية والسياسية منذ عقود عن ما أطلق عليه "الصحوة الاسلامية" أو "الإنبعاث الاسلامي" ، أو "عودة الإسلام"، وسوى ذلك من مصطلحات تريد أن تشير إلى تغيّر يحصل على المستويات السياسية والدينية، والتي باتت متداولة بصيغة "الإسلام السياسي".


ثمة من لا يقبل بهذه التسمية باعتبار ان الإسلام لا انفصال فيه بين السياسي والديني، في مقابل من لا يقبل أصلاً بتعاطي الإسلام بالسياسية باعتبار أنه دين دعوة وبناء مجتمع وليس مشروع سلطة أو سياسة. لكن مصطلح "الاسلام السياسي" حقق اعترافاً وانتشاراً لم يعد من الممكن تجاوزه أو التغاضي عنه عندما نريد البحث في التحولات التي عرفتها الحركات الاسلامية منذ مطلع الثمانينات إلى اليوم.


من أفغانستان إلى إيرانربما نستطيع أن نقسم هذا "الإسلام السياسي" ومراحل صعوده وتأثيراته إلى نوعين وتجربتين :

- الأول هو الذي حصل وتشكّل مع انتصار الثورة الاسلامية في إيران العام 1979. والتي يمكن أن نقول أنها أعادت الإعتبار للاسلام كقوة حيوية وشعبية وفكرية قادرة على صناعة ثورة وإسقاط نظام قوي ومتمكن وتدعمه الولايات المتحدة والغرب. وستعيد هذه الثورة الثقة بالإسلام بعدما كانت الثورات أو حركات التغيير أو الإحتجاج تقتصر على حاملي الأفكار الماركسية أو الاشتراكية أو القومية أو غيرها. وسيكون الإسلام لأول مرة في التاريخ المعاصر هو من يقود ثورة شعبية فعلية وليس انقلاباً أو وراثة أو ملكية... ويؤسس بعدها "جمهورية اسلامية".



- الثاني هو الذي حصل بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان العام 1980، أي بعد سنة واحدة على الحدث الأول وهو انتصار الثورة الاسلامية في إيران العام 1979. ويمكن القول على المستوى المذهبي أن النوع الأول من "الصحوة" ومن الإسلام السياسي كان شيعياً في حين كان الثاني سني الإنتماء. اتخذ الاسلام السياسي في هذا النوع الثاني منذ بداياته طبيعة مختلفة عن الأول ، فقد كان ايديولوجي التوجه والممارسة في حين غلب على الإتجاه الأول البعد السياسي والثقافي.



فقد اعتبر "الإسلام السياسي" المعركة التي يخوضها ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان بأنها معركة ضد "الكفار". وسيعمد هذا الإسلام إلى دعوة "المجاهدين" من أنحاء العالم كافة للمشاركة في هذا الواجب الديني في قتال "الكفار". وستشهد أفغانستان موجات من الهجرة ومن التطوع للمشاركة في هذا الواجب. في حين أن معركة "الإسلام السياسي" في إيران ضد الشاه ونظامه لم تستخدم مطلقاً تهمة الكفر كذريعة للثورة، ولم تحتج إلى أي عون من الخارج ولم تطلق أي نداء لمثل هذا العون. كانت معركة الإسلام السياسي في إيران معركة ضد نظام الشاه "التابع للولايات المتحدة"، والمؤيد لإسرائيل، والذي يريد تغيير هوية الشعب الإيراني وثقافته. كانت المعركة بحسب هذا الإسلام والشعارات التي رفعها الإمام الخميني مفجّر هذه الثورة هي شعارات ثقافية وسياسية. في حين أن البعد "التكفيري" لصحوة الإسلام السياسي التي انطلقت من أفغانستان ترافقت مع تشكل ما عرُف بـ"الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين" التي أطلقها أسامة بن لادن والتي ستصبح لاحقاً تنظيم "القاعدة". وهي من اسمها لها أيضا هذا الطابع "التكفيري" الذي يبرر قتال اليهود والمسيحيين، على الرغم من أن بن لادن دعا أنصاره والتابعين والمؤيدين إلى أولوية قتل الجنود الأميركيين أينما وجدوا قبل أي هدف آخر. لكن تنظيم القاعدة لم يبق على حاله وبرزت من داخله قيادات جديدة مثل أبو مصعب الزرقاوي جعلت قتال الشيعة خاصة في العراق أولوية على ما عداها. كما برزت لاحقاً قيادات مثل "أبو بكر البغدادي" تريد تأسيس خلافة اسلامية في العراق والشام (الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش").



يمكن أن نتوقف عند ملاحظتين في تجربة هذا الاسلام السياسي: الأولى أنه ساهم بشكل كبير في هزيمة السوفيات في أفغانستان، لكن نتيجة هذه الهزيمة كانت في مصلحة الولايات المتحدة التي أعلنت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي العام 1990 عن تفردها في قيادة النظام العالمي والسيطرة عليه والتربع على قمته. والملاحظة الثانية أن هذا الإسلام نفسه كرر تجربة أفغانستان مرة ثانية عندما دعا إلى المشاركة الجهادية ضد النظام" الكافر" في سوريا.



شريك في السلطة



لم يقتصر أمر هذا "الإسلام السياسي" على البعد "الجهادي" و"التكفيري"، بل كان لهذا الإسلام اتجاه آخر، هو الاتجاه الذي يعبّر عنه تنظيم "الإخوان المسلمين". وأولوية هذا الاتجاه هي الرغبة في أن يكون شريكاً في السلطة، إذا تعذرت سيطرته عليها بشكل كامل. وقد فعل الإخوان ذلك بشكل أساسي في مصر وشاركوا في دورات انتخابية عدة، وكذلك في الاردن والكويت ولبنان وفي دول عدة . إلا أن أبرز ما بلغه هذا الإتجاه في تحقيق طموحاته كان مع "الربيع العربي" بعدما استطاع الإخوان أن يصلوا إلى السلطة في مصر، وأن يكون محمد مرسي أحد قيادات الإخوان رئيساً لمصر. وقد أعقب هذا الحدث الاستراتيجي وصول حركة النهضة ذات التكوين الإخواني أيضاً إلى السلطة في تونس، ومع حكومة "حزب العدالة والتنمية" الإخوانية في المغرب، ما أنعش مجدداً آمال الخلافة التي لم تفارق طموحات"الإسلام السني" منذ سقوط الخلافة العثمانية العام 1922.



لكن مثل هذه الطموحات أطيح بها مبكراً. وفقد هذا الإسلام السياسي ما كان يأمله من خلافة ، أو تربع مديد على عرش السلطة. فقد أطيح بالتجربة الإخوانية في مصر بعد نحو سنة واحدة من حكم الرئيس محمد مرسي، (2012 -2013) وتراجعت تجربة "حركة النهضة" في تونس من فريق مهيمن، إلى أحد شركاء الحكم. وقد انتهى الربيع العربي وقد تعرض الإخوان كتنظيم سياسي إسلامي لأقصى ضربة في تاريخهم بعد الإنقلاب على سلطتهم في مصر وأودعوا السجون وفروا إلى خارج البلاد. في حين فشل اتجاه "الجهاد والتكفير" بدوره في تحقيق دولته لا في العراق ولا في بلاد الشام.



اختلفت أولويات الإسلام السياسي الذي انطلق من إيران العام 1979 ، وقد نجح ليس في تحقيق الثورة وحسب بل وفي تأسيس دولة و"جمهورية اسلامية". أي أن تجربة هذا الإسلام السياسي بدأت من خلال دولة وليس من خلال جماعات أو تنظيمات. كما أنها لم تجعل التكفير على جدول أعمالها أو أولوياتها. بل رفعت شعاراً لم يكن مألوفاً في الأدبيات الإسلامية التاريخية والتقليدية، وهو شعار"نصرة المستضعفين". والمقصود أنها لم تقسم العالم إلى مسلمين وغير مسلمين ولا إلى مؤمنين وكافرين. (دار إسلام ودار حرب) بل إلى مستضعفين ومستكبرين (بحسب النص القرآني) وجعلت نفسها إلى جانب المستضعفين. أما أبرز هؤلاء المستضعفين فكان بالنسبة إلى إيران هو الشعب الفلسطيني. هكذا قامت السلطة الاسلامية الجديدة بإقفال السفارة الإسرائيلية في طهران وقدمتها لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما أعلنت هذه السلطة وبلسان كبار مسؤوليها وقوفها إلى جانب المقاومة في فلسطين واعتبرت اسرائيل كياناً غير شرعي تنبغي إزالته. وخلال أكثر من أربعة عقود من تجربة هذا الإسلام السياسي (1979-2022) واجهت إيران صعوبات كبيرة اقتصادية واجتماعية، وتحديات أمنية وسياسية، وتهديدات بالحرب وإسقاط النظام الإسلامي...لكن هذه "الجمهورية " استطاعت رغم ذلك كله أن تحافظ على ديمومتها واستمرارها، وأن ترغم حتى خصومها وأعدائها على التفاوض معها (حول برنامجها النووي) ، وأن تجعل من نفسها قوة إقليمية لا يمكن تجاهل تأثيرها ونفوذها.



العدالة والتنمية



تبقى التجربة التركية على الرغم من أهميتها خارج هذا التوصيف للإسلام السياسي "لأن حزب العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا يرفض أن تطلق عليه الصفة الإسلامية. كما أن تجربة حزب الدعوة في العراق بعد سقوط النظام لا تعتبر تجربة إسلامية ، لأن من وصل إلى رئاسة الحكومة مثل المالكي والجعفري وعلى الرغم من أنهما كانا قياديين في حزب الدعوة الإسلامي، إلا أن النظام العراقي لم يقدم نفسه نظاماً إسلامياً، ولم يعتبر حتى قادة حزب الدعوة أنهم يقدمون مشروعاً إسلامياً.



كذلك يحتاج إلى بحث خاص وضع "إسلام سياسي" لحركات مثل حماس و"حزب الله" التي بدأت حركات مقاومة ثم انتقلت إلى المشاركة السياسية. ويمكن أن نعتبر الأولى ولدت من رحم تجربة الإخوان المسلمين في حين أن الثاني ولد من رحم التجربة الإيرانية.


تبقى تجربة حركة طالبان التي وصلت إلى الحكم في أفغانستان. لكن هذه التجربة لا تزال في بداياتها وتواجه عقبات صعبة ومعقدة وتحتاج إلى بضع سنين لاختبار مدى نجاح "النظام الإسلامي" في قيادة البلاد وتحقيق آمال الشعب الأفغاني، التي كان يطمح إليها منذ ثمانينات القرن الماضي.