كارين عبد النور

المبيّض لـ"نداء الوطن": العمل بغياب الدولة القادرة وحسن الحوكمة والشفافية لم يعد ممكناً

معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي... معايير عالمية بخصائص لبنانية

28 أيار 2022

02 : 00

لقاء مع مؤسسة "وستمنستر" لتعريف المجتمع المدني بقانون الشراء العام
إستكمالاً لسلسلة التحقيقات التي تتناول عمل مؤسسات وإدارات الدولة، نخصّ في هذا المقال معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي للحديث عن تاريخ نشأته، طبيعة عمله، إنجازاته، مهامه ودوره، كما العراقيل التي تواجهه وسبل تذليلها. الموضوع يكتسب أهمية استثنائية نظراً لما يمرّ به البلد من أزمات اقتصادية ومالية ضاغطة تتطلّب معالجتها توحيد الرؤية، تكاتف الجهود وحشد قدرات ينبغي أن تكون استثنائية هي الأخرى.





يُعرف معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي بالمعهد المالي، وهو مركز متخصّص في شؤون المالية العامة وتحديث الدولة. تأسّس عام 1996 في عهد إحدى حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري بمبادرة من وزير الدولة للشؤون المالية آنذاك، فؤاد السنيورة، وبموجب بروتوكول فرنسي- لبناني قضى بتأمين تعاون إداري بين وزارة المالية اللبنانية ووزارة الاقتصاد والمالية والصناعة الفرنسية. ويُعتبر تأسيس المعهد من أبرز إنجازات التعاون الإداري الفرنسي – اللبناني، إذ تحوّل في العام 2003 إلى مؤسسة عامة مستقلة مالياً وإدارياً تعمل تحت وصاية وزير المالية. وفي الذكرى الأولى لاستشهاد الرئيس الحريري ورفاقه، أُهدي المعهد إلى ذكرى وزير الاقتصاد والتجارة الشهيد باسل فليحان الذي كان من أبرز المساهمين في تأسيسه.

الخدمات التي يقدّمها المعهد للإدارات والمؤسسات العامة كما للمواطنين كثيرة، أبرزها: برامج تدريب وظيفية وتقنية، برامج توجيهية للترفيع المهني، شهادات تخصّصية، مناهج تدريبية متخصّصة في إدارة المال العام وهندسة البرامج التدريبية، دراسات وتقارير وطنية، منصّة إلكترونية تفاعلية حول الموازنة وغيرها.

في حديث لـ»نداء الوطن»، تقول رئيسة المعهد، السيدة لمياء المبيّض بساط: «ساهم المعهد في نشر المنهجيات العصرية لصنع سياسات عامة قائمة على البيانات والمؤشرات وفي توسيع دائرة النقاش الوطني حولها، كما ساهم في تنمية الطاقات البشرية المعنية بترشيد إدارة المال العام في الدولة وفي نشر قيم الخدمة العامة، وبناء شراكات مستدامة سمحت باستقطاب الخبرات والتجارب الفُضلى حول العالم». وتجدر الإشارة إلى تمكّن المعهد في مرحلة لاحقة من تأسيس شبكة إقليمية للتبادل المعرفي عُرفت بشبكة GIFT-MENA، إذ نجحت في استقطاب أكثر من 60 معهداً في 20 بلداً عربياً إضافة إلى 20 منظمة إقليمية ودولية شريكة.



رفيق الحريري وباسل فليحان



طاقم العمل... مهارات وكفاءات

يضم المعهد فريق عمل حيوي متعدّد المهارات وعلى درجة عالية من الكفاءة، يتألف من 25 شخصاً: رئيس ونائب له، وهو مدير القسم المالي والإداري أيضاً، مدراء الأقسام والموظفون المتعاقدون والمياومون الذين يتولّون مهام تخطيط البرامج وتنفيذ الأنشطة وتنسيقها، إضافة إلى الخبراء المدربين والباحثين (حوالى 120 خبيراً) الذين يُستعان بهم بحسب المواضيع والحاجة.

بالحديث عن قسم الإدارة، فهو يضطلع بدور مساعدة الأقسام الأخرى في تنفيذ خطط العمل، وتجهيز التقارير والبيانات. أما قسم التدريب، فيقوم بتعزيز قدرات موظفي وزارة المالية والمسؤولين الماليين ونشر ممارسات الحوكمة الرشيدة. في حين يساهم قسم التعاون في تنمية الشراكات مع المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية والقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني. هذا بينما يسعى قسم الدراسات والتواصل إلى دعم وزارة المالية في جهودها لتوثيق المعلومات ونشرها للعامة.

خبرات ونجاحات

من جهة أخرى، شكّل التوجّه لرفع مستوى الجودة في التدريب والدراسات أولوية في خطط عمل المعهد منذ سنواته الأولى، إذ جرى عام 2002-2003 إعداد أوّل نسخة من «النظام الفني للتدريب»، واستقطاب خبراء ومدربين يتمتعون بالخبرة والكفاءة. وفي عام 2006، تم تطوير هذا النظام ونشره بحيث أصبح يُشكّل مرجعاً في مجال تخطيط وتنفيذ وتقويم برامج التدريب المستمر. وتضيف المبيّض: «في رصيد المعهد اليوم نجاحات كثيرة لا سيّما تطوير كفاءات نحو 60 ألفاً من الموظفين التابعين لملاكات وزارة المالية والإدارات والمؤسسات التي تراقبها، أكثر من 100 برنامج متخصّص وعشرات المؤتمرات وبعثات التدريب في الخارج، وحوالى 40 دراسة وورقة عمل وإصدار علمي، متوفرة جميعها على موقع المعهد www.institutdesfinances.gov.lb ، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي».

علاقة وثيقة بوزارة المالية

في سنواته الأولى، تمحورت أهداف المعهد حول تعزيز حسّ الانتماء إلى وزارة المالية خاصة بعد أن برز، من خلال الاستطلاعات الميدانية الدورية، ضعف الأداء المالي للدولة والذي وصفته بعض التقارير الدولية بأنه واحد من المخاطر السيادية (Fiduciary risks). ومع تطوّر دور وزارة المالية وسيرها في مشاريع التحديث، أُوكِلت إلى المعهد عام 2002 إدارة الضريبة على القيمة المضافة.

في المرحلة الممتدة من 2005 إلى 2008، صبّ المعهد جهوده على دعم الوزارة من خلال مشاريع البرامج الإصلاحية الطارئة المتعلقة بتنفيذ الموازنة والنفقات العامة والدين العام في وزارة المالية (EFMIS). كما جهد لاحقاً لمساندة مديرية المالية العامة في تسهيل تطبيق التزامات لبنان الدولية حول معايير الشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الضريبية. «في مسيرته على مدى 26 عاماً، ساهم المعهد في تعزيز حضور وزارة المالية محلياً وإقليمياً وعالمياً من خلال توسيع شراكاته وخدماته، وفي تنظيم المؤتمرات واتفاقيات التعاون وتبادل المعلومات وغيرها من الأنشطة»، بحسب المبيّض.

إنجاز إقرار قانون الشراء العام

أدرك المعهد منذ البدايات أن الشراء العام هو أداة أساسية لسياسات عامة مالية حديثة ولمكافحة الفساد، حيث أن 57% من الفساد في القطاع العام مرتبط بعمليات الشراء العام. فاستأثر هذا الموضوع باهتمام خاص منذ العام 2009 حين كلّف وزير المالية المعهد بإجراء دراسة تحليلية على مستوى وطني تناولت حجم الشراء الحكومي ودوره الاقتصادي والأطر القانونية والممارسات المهنية إضافة إلى تشخيص الحاجات التدريبية خلال المراحل المختلفة التي تمرّ بها الصفقات العامة.

وقد أظهرت الدراسة التي أصدرها المعهد عام 2011 حول «ممارسات الشراء الحكومي في لبنان» عدداً من مكامِن الضعف والقُصور على مستوى الإطار التشريعي والممارسات المتّبعة. وسعياً إلى إصلاح هذه المنظومة، كلّف وزير المالية المعهد وضع خريطة طريق لمسار إصلاحي يرتكز على مكوّنين أساسيين: الأول بلورة رؤية إصلاحية تستند إلى مسح شامل وفقاً لمنهجية MAPS II الدولية؛ والثاني تنفيذ الرؤية الإصلاحية من خلال مجموعة أدوات تشريعية وإجرائية، بدءاً بمشروع قانون عصري للشراء العام يحترم المعايير الدولية ويلحظ دفاتر شروط نموذجية. في هذا الإطار، يُعتبر قانون الشراء العام 24-4-2021، تاريخ 29 تموز 2021، خطوة تاريخية بأبعادها الإصلاحية. فالمعهد يعتزّ بإنجاز القانون في زمن صعب ما يؤكد على إرادة صلبة ورغبة مستمرّة بالسير قُدماً في كل ما من شأنه الإسهام بنهضة لبنان.



ورشة عمل لـ "ميتاك" عن إدارة الأثر المالي للشراكات بين القطاعين العام والخاص



أهمية التعاون مع الجهات الخارجية

فلسفة «الإنفتاح على العالم» انعكست في توجهات المعهد منذ السنوات الأولى لتأسيسه، إذ نسج شبكة علاقات مكَّنته من تقديم خدمات ذات جودة عالية وبرامج تخصّصية. فقد أطلّ المعهد على الساحة الأوروبية معزّزاً علاقاته مع مراكز التدريب الدولية كما انضم إلى مبادرات مميزة مع الجامعات المحلية والإقليمية وعمل على تطوير علاقات التعاون مع بلدان المنطقة الأورو- متوسطية. وتشير المبيّض إلى أن المعهد «لم يوفّر فرصة لتنسيق جهوده مع المؤسسات الدولية لا سيّما البنك الدولي ومعهده التدريبي (WBI)، ومركز التعاون التقني لمنطقة الشرق الأوسط التابع لصندوق النقد الدولي (METAC)، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) والاتحاد الأوروبي كآلية المساعدة التقنية وتبادل المعلومات (EU-TAIEX)، لمواكبة المشاريع التحديثية وإعداد دراسات وطنية تسمح ببناء سياسات عامة على أساس علمي منهجي».

ثم إن المعهد عمل لفترة طويلة على تعزيز تعاونه الثنائي مع معاهد ومراكز التدريب المالية في البلدان العربية والغربية، وتمتين شراكاته مع عدد من المؤسسات الإقليمية في الوطن العربي، أهمها البنك الإسلامي للتنمية والمعهد العربي للتخطيط، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، وتوطيد علاقاته مع المغرب وفلسطين ومصر والعراق. وقد سهّلت شراكات المعهد وعضويته في الشبكات الدولية مواكبة التطوّرات ومكّنته من المساهمة في النقاش العالمي حول مسائل التأقلم مع المتغيّرات التي رافقت انتشار جائحة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت. إلى ذلك، شهدت الأزمات الأخيرة في لبنان مزيداً من تعزيز هذه الشراكات مواكبة لمتطلبات الواقع اللبناني وتشخيص المشاكل لإيجاد الحلول المناسبة لها. وقد كان لافتاً الدعم الذي قدّمته المنظمات الدولية وأبرزها اليونيسيف، الوكالة الفرنسية للتنمية، البنك الدولي، مبادرة الدعم من أجل تحسين الحوكمة والإدارة (SIGMA) وMETAC لتأمين استمرارية المسار الإصلاحي في الشراء العام وشفافية الموازنة.

صعوبة التمويل في ظل الأزمات

تتمثّل مصادر تمويل المعهد بمساهمات مالية تُلحظ في الموازنة العامة ضمن بند مخصّص لهذه الغاية في موازنة وزارة المالية، وذلك بعد مناقشة مشروع موازنته مع مديرية الموازنة ومراقبة النفقات في الوزارة، المبني على خطة عمل سنويّة مفصّلة وفق الحاجات المستقطبة. هذه المساهمة تشكّل 95% من مجموع مصادر تمويل المعهد يُضاف إليها الهبات وعقود الخدمات لتنفيذ مشاريع مموّلة من جهات مانحة.

وكسائر المؤسسات في القطاعين العام والخاص، عانى المعهد آثار الأزمات الأمنية والاقتصادية والمالية المتلاحقة، تدهور سعر صرف الليرة منذ نهاية العام 2019، إضافة إلى انعكاسات جائحة كوفيد-19. كذلك، تعرّض المبنى الذي يشغله وتجهيزاته المكتبيّة والمعلوماتيّة لأضرار جرّاء انفجار مرفأ بيروت (ما أدّى إلى توقّف الأنشطة داخل المبنى، مع العلم أن فريق العمل استمرّ بالقيام بمهامه وتنفيذ النشاطات والمبادرات المرتقبة في الخطة السنوية عبر الولوج إلى تقنيات العمل عن بُعد بكافة أبعادها). وقد حاول المعهد المحافظة قدر المستطاع على استقرار مالي من خلال اعتماد سياسات مالية شديدة الترقّب ومُمنهجة لدرس حاجات وإعادة جدولة نشاطات الأقسام كافة. وساهمت سياسة المرونة في العمل والقدرة على التنظيم المستمر للإجراءات الداخلية في تلبية كافة الطلبات الواردة والمستجدّة من خارج الخطّة والتي لم تكن تلحظها الموازنة، من جهة، وتأمين السيولة اللازمة لتغطية النفقات الناتجة عنها، من جهة أخرى.

نظرة مستقبلية من رحم التجارب

لا شك أن قدرة المعهد ومرونته في وجه الأزمات مردّها إلى سياسة تخطيط استباقية ومُمنهجة لتحديد ودرس حاجات ونشاطات الأقسام كافة، التنظيم المستمر للإجراءات الداخلية، تطوير سياسة المكننة والأنظمة المعلوماتية المالية والإدارية. فالصعوبات لم تحل دون المثابرة على وضع منهجيات تشاركيّة مبنيّة على المعطيات العلمية والدراسات التي من المتوقع أن تساهم في بلورة سياسات عامة عصرية ونصوص قانونية وإجراءات تضع إدارة المال العام، أي مال المواطن، على مسار الحداثة.

حول ذلك تلفت المبيّض ختاماً أن «الجميع بات يدرك عدم إمكانية الاستمرار بالعمل بغياب دولة قادرة ودون التزام صارم بالمعايير العلمية وبالشفافية وحُسن الحوكمة. لذا شكّلت «السياسات العامة» ما بين الأعوام 2016-2022 محور العمل الأساس، حيث جهد فريقنا على توفير مساحة تشاركية تجمع نخباً فكرية وعلمية ومهنية مع المسؤولين في الدولة بغية توظيف المعرفة العلمية ومناقشتها للتصدّي للمشكلات بواقعية وبما يتوافق مع البيئة اللبنانية. وجرى إصدار سلسلة من الدراسات والأوراق لتوجيه صناعة القرار في مجالات تحديث المنظومة المالية – خاصة الشراء العام وتعزيز شفافية الموازنة العامة والحماية الاجتماعية وغيرها من المواضيع الحسّاسة - دون إغفال الاستفادة من التجارب الدولية التي أثبتت نجاحها في واقع شبيه بالواقع اللبناني».


MISS 3