الصين... هل هي مستعدّة لقيادة العالم؟

02 : 11

تبدو جمهورية الصين الشعبية ناشطة وواثقة من نفسها وجريئة فيما تحتفل بكل زخم بعيدها السبعين. بدءاً من "مبادرة الحزام والطريق" و"البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، وصولاً إلى "منظمة شنغهاي للتعاون" و"منتدى شيانغشان"، اتّضحت مكامن قوة الصين وقدرتها على تأمين السلع الاقتصادية والأمنية. في عصرٍ تشوبه الاضطرابات والشكوك ونزعة أميركية تدريجية لتخفيض النفقات، يبدو أن الصين تُحسّن وضعها بأفضل الطرق. تريد بكين طبعاً أن توسّع دورها، لا سيما في آسيا، لكنها قد لا ترغب بالضرورة في قيادة العالم وتحمّل جميع الأعباء والتوقعات التي ترافق هذا الدور.

على المستوى الاستراتيجي، تتابع الصين الدفاع عن عالمٍ متعدد الأقطاب، حيث لا تجد من يضاهيها. يحصل البلد على المنصات اللازمة لتنفيذ هذه الأجندة عن طريق مجموعة "بريكس"، ومجموعة العشرين، ومجموعة السبعة والسبعين، و"منظمة شنغهاي للتعاون"، وصفقات التجارة الإقليمية. تؤدي زيادة قوة الصين إلى إضعاف هياكل النفوذ التقليدية الراسخة في مؤسسات الحوكمة العالمية الرائدة، على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. تمارس بكين الضغوط لتطبيق الإصلاحات كي تعطي مساحة إضافية للقوى الناشئة التي تشبهها وكي تؤثر على القرارات المرتبطة بتلك الركائز المالية القديمة.

صحيح أنها تدفع باتجاه الإصلاحات، لكنها لا تنوي زعزعة استقرار النظام القائم، حتى أنها كثّفت دعمها للتعددية والعولمة. أصبحت الصين أكبر مساهِمة في قوات حفظ السلام من بين الدول الأعضاء الخمس الدائمة في مجلس الأمن، وثاني أكبر جهة مُموّلة للأمم المتحدة. كذلك، تُعتبر الصين مشارِكة ناشطة في آلية تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية، حتى أنها التزمت بأحكام لا تناسبها، رغم المشاكل التي تطرحها. في الوقت نفسه، من المتوقع أن يؤدي دور الدولة البارز في الممارسات الاقتصادية والتجارية الخاطئة في الصين إلى استمرار الخلافات مع أهم الشركاء التجاريين.

لكن بدأت بكين، رغم دعمها للتعددية القطبية، تؤدي دوراً قيادياً في زمنٍ تعتبره عصر الفرص الاستراتيجية. لقد زادت جرأتها بفضل ثقلها الاقتصادي ونفوذها المتزايد، وسبق وأقدمت على طرح رؤيتها الخاصة عن العالم: "مستقبل مشترك للبشرية"! لا يزال هذا المفهوم غامضاً، لكنّ تركيزه على احترام السيادة وعدم التدخل وحل النزاعات سلمياً يوحي بأنه لا يؤيد التدخل المكثف بشؤون الدول، حتى أنه لن يرصد على الأرجح حالات انتهاك الحقوق في البلدان التي ترتكب ممارسات مماثلة.

لكن رغم المخاوف المطروحة، تتابع المبادرات الاقتصادية والأمنية الصينية إحراز التقدم. يشارك أكثر من 65 بلداً في أنحاء أوراسيا وإفريقيا في مشروع "مبادرة الحزام والطريق" الذي بدأ منذ ست سنوات فقط. كذلك، تأسس "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" منذ أربع سنوات ويشمل راهناً 97 عضواً، بينما يقتصر عدد الأعضاء في "بنك التنمية الآسيوي" الذي نشأ في العام 1966 (بقيادة اليابان، مقرّه مانيلا) على 68 عضواً. ويُعتبر "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" (مقرّه بكين) أول بنك استثماري متعدد الجوانب حيث لا يتم تمثيل الولايات المتحدة ولا اليابان، لكنه يشمل بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وسويسرا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وبلداناً غربية أخرى. في العام 2015، أسست الصين، إلى جانب اقتصادات ناشئة أخرى مثل البرازيل، وروسيا، والهند، وجنوب إفريقيا، "بنك التنمية الجديد" في شنغهاي، وتتجه اليوم إلى إطلاق مشاريع إضافية مُمَوّلة بالعملة المحلية.

تطرح الجهود الرامية إلى إعطاء عملة الرنمينبي طابعاً دولياً تحدياً كبيراً على الدولار الأميركي. تزيد الصين دعمها لعملتها بالذهب، وقد ضمّ صندوق النقد الدولي العملة الصينية إلى سلة حقوق السحب الخاصة في العام 2016. حتى أن طرح نظام "البترو – يوان" قد يزيد النفوذ الصيني في سوق الطاقة العالمي. تحرص الصين، بصفتها واحدة من أهم مستوردي السلع، على تشجيع هذا النوع من التحولات. يصبّ هذا التدبير في مصلحة البلدان الغنية بالطاقة أو المعادن إذا كانت تواجه عقوبات غربية، على غرار روسيا وفنزويلا وإيران. كذلك، تستطيع الصين أن تؤمّن بدائل عن كبار منتجي النفط، مثل المملكة العربية السعودية والعراق، إذا واجهت ضغوطاً خارجية على خلفية مشاكل محلية مرتبطة بحقوق الإنسان.

تثبت قدرة الصين على جمع هذا الكم من الأنظمة الاقتصادية بهذه السرعة، رغم ضغوط الولايات المتحدة وعدم مشاركتها، أن البلد يتمتع بقوة متنامية واضحة. هذا الوضع ليس مفاجئاً، فقد أصبحت الصين أكبر شريكة تجارية لأكثر من 130 بلداً.

على صعيد آخر، يشهد التدخل الصيني في الشؤون الأمنية العالمية تقدماً ملحوظاً. بدءاً من حفظ السلام في إفريقيا وعمليات مكافحة القرصنة في المحيط الهندي، وصولاً إلى أداء دور الوساطة في أفغانستان والتدخل في اتفاق إيران النووي وتنظيم تدريبات بحرية مع "رابطة أمم جنوب شرق آسيا"، لا يمكن أن يغفل أحد عن دور الصين المتوسّع في المجال الأمني. اعتباراً من العام 2013، تولّت بكين مشاريع تجريف ضخمة لبناء قواعد جزيرة اصطناعية في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، وذلك رغم احتجاج واستنكار جهات أخرى تطالب بالمنطقة وقوى بحرية كبرى. في العام 2017، أنشأت الصين أول قاعدة عابرة للبحار في جيبوتي، وتتطلع منذ ذلك الحين إلى نشر قواعد بحرية في المحيطَين الهندي والهادئ، كما في باكستان ("جوادر")، وسريلانكا ("هامبانتوتا")، وميانمار ("كيوكبيو")، والمالديف، وكمبوديا ("ريم")، وجزر سليمان ("تولاغي")، وفانواتو. وبما أن المشاريع الجيوسياسية والأمنية الصينية بدأت تتخذ منحىً غربياً بشكل عام (على غرار "منظمة شنغهاي للتعاون" و"مبادرة الحزام والطريق")، يشكّل اهتمام بكين بآخر جزيرتَين في المحيط الهادئ نقطة خلاف أساسية: بكين مصمِّمة على الانفصال عن سلاسل الجزر التي انتشرت فيها الولايات المتحدة بعد الحرب وتأمين مصالحها التجارية المتوسّعة عبر نشر قوة بحرية دولية.

بدأت شراكة الأمن الإقليمي، التي ساهمت الصين في إنشائها واعتبرت التحالفات القائمة من بقايا الحرب الباردة، تتحول إلى كيان رسمي ومنظّم يعتبره البعض خصماً محتملاً لحلف الناتو. تأسست "منظمة شنغهاي للتعاون" في العام 2001 كمنصة للتعامل مع الإرهاب والتطرف والنزعة الانفصالية، لكنها انتقلت من خمس دول أعضاء إلى ثماني، فضلاً عن 12 عضواً إضافياً بدور مراقبين وشركاء في الحوار ومقدّمي طلبات للمراقبة. كذلك، توسّع نطاق نفوذها، انطلاقاً من آسيا الوسطى، نحو أماكن أخرى من أوراسيا والقوقاز وجنوب وغرب آسيا. وحتى تركيا المنتسبة إلى الناتو باتت شريكة في الحوار في العام 2012، فأصبحت بذلك أول دولة عضو غير دائمة ترأس منتدى الطاقة في "منظمة شنغهاي للتعاون" في العام 2017.

في العام 2006، أسست بكين أيضاً منتداها الخاص للأمن القومي لمنافسة منتدى "شانغريلا للحوار". جمع "منتدى شيانغشان"، في نسخته التاسعة في الشهر الماضي، أكبر عدد من الحضور حتى الآن، فشارك فيه أكثر من 1300 شخص من 76 وفداً رسمياً، بما في ذلك وزراء دفاع 23 دولة حاضرة. ورغم تعدد النزاعات البرية والبحرية العالقة، أرسل عدد كبير من الدول المجاورة للصين وفوداً رفيعة المستوى للمشاركة، منهم وزير الدفاع الفيتنامي ووكيل وزارة الدفاع الفيليبيني. كذلك، أصبح نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي في الصين، تشاد سبرايا، أعلى مسؤول دفاعي أميركي يشارك في المنتدى. حَضَر أيضاً وزير الدفاع سيرغي شويغو، أعلى مسؤول دفاعي روسي. تطرّق المنتدى إلى مجموعة واسعة من المسائل الأمنية، بدءاً من مصالح القوى الكبرى والمتوسطة والصغرى في مجال الأمن البحري، وصولاً إلى استعمال الذكاء الاصطناعي ومستقبل الحروب.

تثبت جمهورية الصين الشعبية في عيدها السبعين إذاً أنها قادرة على أداء دور قيادي. ويمكن اعتبار معجزتها الاقتصادية المبهرة (إنقاذ 800 مليون شخص من الفقر خلال جيل واحد) مصدر إلهام لعدد كبير من البلدان النامية. حتى أن نموذجها السياسي والاقتصادي الفريد من نوعه قد يُشجّع الدول الأخرى على شق طريقها نحو النجاح. لكن هل تكفي هذه المعطيات كي تصبح زعيمة العالم؟

بناءً على التجربة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، من المتوقع أن تمتنع بكين عن استعمال مواردها الخارجية لتحقيق غايات سياسية مبهمة. ومنعاً للتوسع المبالغ فيه، ستتابع التركيز على المناطق المجاورة لها رغم تنامي مصالحها العالمية. باستثناء قوات حفظ السلام، من المستبعد أن تنشر الصين قواتها ميدانياً في الخارج، بل إنها ستتكل بدرجة إضافية على قوتها الاقتصادية لاستمالة بلدان أخرى. لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه الخطوة كافية لحفظ السلام والاستقرار في العالم.

على صعيد آخر، تبرز أسئلة مشروعة عن تأثير القيادة الصينية الافتراضية على العالم. لا تحبذ الصين نشر القيم (تعتبره شكلاً من التدخل بشؤون الغير)، وهذا ما يجعلها حتى الآن في مكانة غير جاذبة، حيث تبدو داعمة للحكومات، حتى لو أصبحت فاسدة وغير كفوءة واستغلالية. يسهل التشكيك أيضاً بوجهة نظرها حول التعددية الثقافية والهجرة. لا مفر من أن نقلق حين نفكر باحتمال أن تنتشر الردود الصينية الصارمة على التحديات الأمنية المحلية في الخارج. أخيراً، يبقى السجل الصيني في مجال منع الانتشار النووي مثيراً للجدل.

في عالمٍ مترابط أكثر من أي وقت مضى، سيكون تجاوز الحدود الوطنية أساسياً لقيادة العالم. يتوقف نجاح الصين في إنشاء "مستقبل مشترك للبشرية" إذاً على إقامة توازن سليم بين الحفاظ على حرمة الحدود والالتزام بالقيم العالمية. في الذكرى السبعين لتأسيس البلد، تكثر الأسباب التي تدعو إلى الاحتفال وتجديد الثقة. لكن يبدو أن الصين بدأت للتو تفهم مخاطر وتكاليف قيادة العالم.

* لوسيو بلانكو بيتلو هو محلل مختص بشؤون آسيا يراقب مسائل الأمن والتواصل بين الدول وتفاعل جنوب شرق آسيا مع القوى العظمى. يستعد راهناً لنيل شهادة ماجستير في الشؤون الدولية من الجامعة الأميركية في واشنطن.