إسمعوا صوت الشارع: المرحلة الانتقالية الجديدة في الجزائر

00 : 00

People take part in an anti-government protest in Algiers, Algeria May 31, 2019. REUTERS/Ramzi Boudina
يواجه الجيش الجزائري مشكلة حقيقية. سقط رئيس البلاد الثمانيني، عبد العزيز بوتفليقة، في شهر نيسان تحت ضغط الحراك الشعبي، في شباط 2019، حيث تجمّع ملايين الناس في مسيرات حاشدة مرتين أسبوعياً. لكن نشأ فراغ في السلطة نتيجةً لذلك ولم تتمكن أي نُخَب قائمة من سدّه، لأن أحداً لا يتمتع بالشرعية الكافية بنظر الرأي العام. منذ ذلك الحين، اضطر الجيش لاتخاذ القرارات الحاسمة في البلاد علناً. لطالما أدرك الجزائريون أن قيادة الجيش تفرض سيطرتها في جميع المجالات، لكن ساعدها الرئيس المدني ظاهرياً على تجنب أي محاسبة مباشرة على أفعالها. ولتفادي الصراعات مع الحركة الاحتجاجية الشعبية الضخمة منذ إسقاط الرئيس، يقضي الحل الوحيد برأي الجيش بتعيين رئيس جديد للدولة (لا أهمية لهويته) في أسرع وقت ممكن، علماً أن الحراك بات يطالب بنقل السلطة العسكرية إلى المدنيين وترسيخ حكم القانون.

في شهر أيلول، أعلن قائد الجيش أحمد قايد صلاح أن الانتخابات الرئاسية ستجري في 12 كانون الأول (سبق وأُلغي الاستحقاق مرتين تحت ضغط الشارع، ويبدو أنه لن يكون كافياً لكبح الأزمة). أدى الفشل العام في وضع هندسة سياسية تُشرّع مسار التصويت والتمسك بحكومة موقتة وغير مُنتخَبة بما يتجاوز المدة التي يسمح بها الدستور إلى نشوء فراغ إيديولوجي لا تَمْلؤه إلا شعارات ملايين المتظاهرين في أنحاء البلد أسبوعياً. أصبح الحراك المنتدى المحتمل الوحيد لإقامة مفاوضات حول ميثاق جديد بين الحكومة والشعب، وهكذا نجح في زعزعة ميزان القوى في النظام السياسي الجزائري.

عدا عن الأزمة المشتقة من إلغاء الانتخابات بقرارٍ من أعلى السلطات، سيجد الجيش الجزائري صعوبة في ابتكار حل لترسيخ سلطة جديدة لصنع القرار كما يطلب الشعب الجزائري، تزامناً مع تجديد الإطار المؤسسي الذي يضمن شرعيته الخاصة.

كان قايد صلاح حليفاً مقرباً من بوتفليقة، وقد تكيّف سريعاً مع تبدّل المشهد السياسي غداة اندلاع احتجاجات الحراك، فاعتبر الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على "إنقاذ البلد". وكان يُفترض أن يتبلور "انشقاقه" عن "المافيا" المرتبطة بالنظام السابق بطريقة ملموسة من خلال إجراء انتخابات جديدة، علماً أنه حاول أن يعطي مصداقية لهذا الاستحقاق عبر اعتقال رجال أعمال نافذين ومموّلين على صلة بالرئيس السابق بتهمة الفساد. كذلك، استثنى قايد صلاح عمداً مصطلحات بنيوية خاصة بالنظام القديم خلال المرحلة الانتقالية، منها "جبهة التحرير الوطني" (الحزب الوحيد في البلد سابقاً)، والأجهزة الاستخبارية والأمنية، و"الاتحاد العام للعمال الجزائريين" (الاتحاد المركزي الوحيد الذي تعترف به السلطات). كما أنه ألقى خطابات لامتناهية عن ضرورة إجراء انتخابات، تزامناً مع تغطية الرئيس الموقّت عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نور الدين بدوي. عمد قايد صلاح أيضاً إلى حل "لجنة الوساطة والحوار": تتألف هذه الهيئة من ناشطين مزعومين من المجتمع المدني وكانت تحظى برعاية النظام للتعويض عن غياب الحوار مع الشارع. هو أقدم على هذه الخطوة بعدما أوصى أعضاء اللجنة باستقالة الحكومة الموقتة كخطوة أولى لنزع فتيل أزمة التمثيل التي أدانها الحراك بعد عهد بوتفليقة.

بفضل دور قايد صلاح المحوري، تمكّن الجيش من فرض سيطرة كاملة على موارد البلد التي أعيد توزيعها على نطاق أوسع في السنوات القليلة الماضية، بما يتجاوز إطار أوساط النظام، عبر توسيع شبكات الفساد. لكن في ظل غياب أي مشروع سياسي واضح لتطبيق الإصلاحات بعد الانتخابات، خسر النظام أيضاً حلفاء مدنيين كان يستطيع الاستعانة بهم لإضفاء طابع تعددي ظاهري على الانتخابات الرئاسية ولتمكين الجيش من العودة إلى أروقة السلطة. ظهرت مجموعة من المرشحين والأحزاب السياسية المقرّبة من الجيش وأيّدت أن يحتفظ هذا الأخير بامتيازاته، علماً أنها تمتعت بالشرعية اللازمة كونها لم تدعم يوماً بوتفليقة. شملت هذه المجموعة شخصيات من أمثال رئيس الوزراء السابق مولود حمروش، والوزير السابق أحمد طالب الإبراهيمي، والرئيس السابق اليمين زروال (1994 و1999). لكن يرفض هؤلاء الآن أن يجازفوا بتأييد الانتخابات في ظل المناخ السائد. كذلك، أعلنت الأحزاب المعارِضة التي حظيت بتأييد النظام عن دعمها للمرحلة الانتقالية المبنية على التفاوض مع الجيش قبل اندلاع الاحتجاجات، منها الحزب الإسلامي "حركة مجتمع السلم".

منذ بدء المرحلة الانتقالية، لم تسمح هيمنة قائد الجيش لأي زعيم سياسي قومي بترسيخ مكانته. وفي ظل غياب أي اقتراحات ملموسة من الجيش وانهيار مؤسسات الدولة، أصبح الحراك المنتدى الوحيد لمناقشة طبيعة التغيير في الجزائر، وتحوّل الآن إلى قوة دافعة للحياة السياسية المحلية. وبما أن الحراك يرفض العنف، فرض المواطنون شكلاً من النفوذ على السلطات وعملائها، فتمكنوا من وضع حد لعقيدة الانتخابات الرئاسية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتغيير النظام من الداخل سلمياً. إنها القناعة التي سمحت لبوتفليقة بالصمود طوال أربع ولايات متلاحقة.

على صعيد آخر، سمح الحراك للجزائريين بتجاوز صدمة تحدي شرعية الجيش المشتقة من تناقض خاطئ يقضي بمعارضة "الإرهابيين" أو دعم الجيش. فضّل الجيش هذا الخطاب منذ أن كبح مسار التصويت في العام 1992، علماً أن هذه الخطوة أطلقت الحرب الأهلية المزعومة خلال التسعينات. لكن تُحذر الاحتجاجات الراهنة قايد صلاح مباشرةً كل أسبوع من إجراء أي انتخابات: يرفض الجزائريون هذه المرة تهميشهم في المفاوضات المرتبطة بالعملية الانتقالية. نجح المحتجون في تشكيل كتلة معارضة متنوعة فيها أشخاص من جميع الأعمار، والطبقات الاجتماعية، والخلفيات العرقية، والتوجهات السياسية.

لقد تجذّر الحراك في عمق المجتمع الجزائري وبدأت التحركات المستوحاة منه تتسلل إلى مسيراته. أغلقت المكاتب المسؤولة عن تسجيل الناخبين وتنظيم الانتخابات أبوابها منعاً لإجراء الانتخابات، وتتكاثر التظاهرات أمام البرلمان ومؤسسات أخرى. كذلك، رفض الموظفون في دور البلدية والهيئات التعليمية والاتحاد الوطني للمحامين توزيع العاملين على مكاتب التصويت. ووافقت النقابات المستقلة لموظفي الخدمة المدنية على الدعوات إلى إضراب عام، وأطلقت جمعيات القضاة مبادرة لمقاطعة المحاكم وشلّ البلد في الوقت نفسه.

سواء حصلت الانتخابات أو لم تحصل، يُفترض أن يؤدي تضخيم هذا الحراك، باعتباره العامل المحوري لضمان شرعية العملية الانتقالية، إلى تعزيز مطالب المحتجين بتطبيق إصلاح حقيقي في المؤسسات الجزائرية وإعادة تعريف دور الجيش فيها.

من المستبعد أن تسمح هذه العملية الانتقالية المثيرة للجدل بعودة النظام إلى وضع المراوحة الذي كان سائداً في عهد بوتفليقة. كان ذلك العهد يتمحور حول جيشٍ يعتبر نفسه أهم من أن يحاور الشعب، ورئيس بيروقراطي، وأحزاب متواطئة لا قاعدة شعبية لها في المجتمع، وبرلمان يسعى إلى جمع الثروات ولا علاقة له بالشعب. هذه التركيبة لن تحلّ مشكلة إقصاء المواطنين التي تتابع تشجيع ملايين الناس على النزول إلى الشارع. لذا لا بد من حل مشكلة التعايش بين مؤسسات صنع القرار الجديدة والقديمة لإنهاء الأزمة.

لتحقيق هذه الغاية، ثمة حاجة إلى توضيح كيفية فصل قيادة الجيش وأوساطها السياسية عن شخصيات النظام السابق وممارساته الاستبدادية. يعبّر عدد متزايد من الضباط رفيعي المستوى عن استيائه لأن مصداقية المؤسسة العسكرية كضامنة لأمن البلد أصبحت مُهددة بسبب لوائح الاتهام المتكررة ضد الشعب. لإعادة ترسيخ شرعية الجيش كمؤسسة محورية، يرى معظمهم ضرورة كبح الصراع المتنامي بين قيادته والحراك على خلفية تعيين رئيس جديد، علماً أن احتمال إطلاق حملة قمع واسعة وعواقبها القانونية يبقى من المحرمات بنظر كل من تورط في الحرب الأهلية.

حاولت هيئات مستقلة ومقربة من الحراك في المجتمع المدني أن تُجدد الحوار السلمي من خلال طرح خرائط طريق تقترح استقالة الحكومة الموقتة وتكريس حق الجزائريين بالاحتجاج كشرطَين مسبقَين لأي مفاوضات. تستحق هذه المبادرات الثناء طبعاً، لكنها فشلت في إطلاق حوار سياسي مع صانعي القرار الحقيقيين في البلاد لأنهم يفترضون أن شرعية السلطة تتوقف على رغبتها في إصلاح نفسها.

إذا اتخذت مبادرات الحراك في الأشهر المقبلة منحىً أكثر براغماتية، قد تتأثر مكانة الشركاء الدوليين للجزائر بشدة. يشير احتمال بدء إضراب عام، والدعوات إلى تضامن دولي لتحرير سجناء الرأي، ومطالب الشتات بمحاربة شبكات الفساد الدولية، والضغط على مبيعات الأسلحة والتعاون الأمني الدولي، إلى تدخّل المجتمع الدولي في هذا الملف.

لطالما كان رفض الشعب الجزائري أي تدخل خارجي عنصراً محورياً خلال حقبة ما بعد الاستعمار، وقد ترسّخ هذا الموقف لأن الحراك لن يسمح للأجندات الخارجية بالتلاعب به. لكن يُفترض ألا يمنع هذا الوضع الشركاء الدوليين، لا سيما الاتحاد الأوروبي، من محاولة فهم المشكلة الأساسية لتحويل المفاوضات بين القادة والمحتجين الجزائريين إلى مؤسسات تُشرِف على العملية الانتقالية. لن يصدّق أحد اهتمام اللاعبين الدوليين باستقرار البلد مستقبلاً ما لم تتّضح المجازفات المطروحة، بعيداً من الأسئلة الاعتيادية حول "الخطر الإرهابي أو المهاجرين"، أو دعم حزبٍ دون سواه.


MISS 3