ألكسندر كولي ‏

سلاح البحرية حوّل أميركا إلى قوة عظمى بالأمس... هل يتكرر هذا الإنجاز؟

11 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في العام 1987، أطلق المؤرخ بول كينيدي عاصفة من الانتقادات حين نشر كتاب The Rise and Fall of the Great Powers (صعود وسقوط القوى العظمى). تعلّقت خطيئته الكبرى حينها بتوقّع تراجع الولايات المتحدة. كانت شهرته كفيلة بجعل كتابه من أكثر الكتب مبيعاً، حتى أن المرشحين للرئاسة الأميركية بدؤوا يستشيرونه، ووصلت نسخة من الكتاب إلى زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن. لكن هاجم النقاد النزعة الانهزامية الواضحة في أسلوب كينيدي. راجع خبير الاستراتيجيات العسكرية، إدوارد لوتواك، الكتاب وحمل تقييمه عنوان "صعود وسقوط بول كينيدي".

يحمل الكتاب الجديد Victory at Sea (الانتصار بحراً) طابعاً مختلفاً، إذ من المستبعد أن يُحدِث ضجة كبرى أو يثير الجدل. بل إنه يستوحي موضوعه من الكتاب السابق ويتطرق إلى التفوّق البحري الذي يرتبط بالقوة الاقتصادية والقدرات الصناعية. كينيدي هو أستاذ تاريخ ومدير الدراسات الأمنية الدولية في جامعة "يال"، وهو يوضح منذ البداية أن كتابه يبقى مجرّد نص مختصر ومُصمّم لمرافقة لوحات السفن الحربية التي رسمها الرسام البحري الشهير إيان مارشال، وقد طوّر فكرته انطلاقاً من تلك اللوحات. ثم توصّل في النهاية إلى طرح كتاب خفيف ومليء بالصور ومؤلف من مجلّد واحد. يمكن اعتباره مشابهاً لكتابWorld War II at Sea: A Global History (الحرب العالمية الثانية في البحر: تاريخ عالمي) للمؤرخ كريغ سيموندز من العام 2018.

في كتاب Victory at Sea، تسود مشاعر قوية من الحنين على مستويَين. من جهة، يعود كينيدي بالذاكرة إلى بداياته، حين كان ينشر أعمالاً متخصصة بتاريخ القوات البحرية. ومن جهة أخرى، ثمة حنين إلى الولايات المتحدة التي كانت تتجه إلى التفوّق. في العام 1938، كانت القوات البحرية الأميركية تملك 380 سفينة ناشطة. وبحلول نهاية العام 1944، وصل ذلك العدد إلى 6084 سفينة. لكن لا يكتفي الكتاب الجديد بمراجعة وصول الولايات المتحدة إلى مصاف القوى العظمى بكل قوة وثبات، بل إنه يستكشف أيضاً القوى البحرية البارزة الخمس الأخرى في الحرب (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان)، بدءاً من العام 1936، حين بدأت حملة إعادة التسلّح تزامناً مع إلغاء التعبئة العسكرية فور انتهاء الحرب.





يُخصّص كينيدي صفحات عدة لوصف الغارة البحرية اليابانية التي ينساها الكثيرون أحياناً في المحيط الهندي، في نيسان 1942، فقد أدت حينها إلى غرق السفن، وقصف المواقع التي تشكّل المرافق الشاطئية في سريلانكا المعاصرة، ونشر أجواء عامة من الرعب. يتوقع كينيدي ما كان ليحصل لو قرر الأميرال تشويتشي ناغومو متابعة التقدّم غرباً، ما يعني تهديد مدينة عدن في اليمن وقناة السويس. كما أنه يُحلل تأثير هذه الخطوة على حرب بريطانيا البرية في الشرق الأوسط وقدرتها على متابعة السيطرة على مالطا التي شكّلت محوراً استراتيجياً بارزاً ومصدر إزعاج دائم لإيطاليا. تتعدد الكتب التي تتناول المعارك البحرية في الحرب العالمية الثانية وتُركّز على إخفاقات الأميرال ويليام هالسي جونيور وعملياته الهجومية الفاشلة، ومنافع المهابط الخشبية لحاملات الطائرات مقارنةً بالنماذج المدرّعة. تشمل هذه الكتب أيضاً قصصاً عن مطاردة البارجة الألمانية "بسمارك".

يبرع كينيدي في دمج الاقتصاد والتكنولوجيا والخيارات الاستراتيجية لتفسير السبب الكامن وراء مسار الحرب البحرية في تلك الحقبة. هو يفصّل مجموعة من العوامل والروابط المتشعّبة، فيُركّز بشكلٍ أساسي على أسباب ما حصل بدل تحديد الأطراف التي أغرقت السفن، وهو موضوع ركّزت عليه كتب شهيرة أخرى تناولت تاريخ القوات البحرية. يذكر كينيدي مثلاً أن المواد الخام المشتقة من جبل مصنوع من بقايا البوكسيت في "سورينام" تحوّلت في نهاية المطاف إلى مادة الألومنيوم الضرورية لبناء حاملة الطائرات المقاتلة الناجحة "غرومان هيلكات F6F" وتسريعها واستعمالها في المعارك القوية لصالح القوات البحرية الأميركية.

تولى العالم الأنغلوفوني في جميع الظروف حراسة بِحار العالم لأكثر من 200 سنة، وبغض النظر عن التحديات الخطيرة التي واجهها من وقتٍ لآخر. شهدت الحرب العالمية الثانية تعاوناً لافتاً بين بريطانيا والولايات المتحدة، ولم يسبق أن عقدت قوى كثيرة هذا النوع من الشراكة يوماً. في تلك الفترة، اتكلت البحرية الملكية البريطانية، التي لا تزال قوية لكنها أصبحت متصدّعة بدرجة معينة، على المساعدات الأميركية لحماية القوافل في الأطلسي. في المقابل، كانت البحرية الأميركية تتكل على بريطانيا حين تتعثر وتحتاج إلى المساعدة خلال أحلك لحظاتها في المحيط الهادئ.

يستوحي كتاب Victory at Sea إيقاعه وأحداثه المشوّقة من قناعة كينيدي القائلة إن استمرار الحرب كان ممكناً لكن غير مؤكد حتى العام 1943. برأي كينيدي، حُسِمت النتيجة مع وصول سيلٍ من حاملات الطائرات الضخمة والجديدة من فئة "إسكس" بدءاً من منتصف العام 1943. طلب الكونغرس حينها 32 حاملة طائرات "إسكس" (أُنجِزت 24 طائرة منها)، لكنه حوّل أيضاً تسعة طرادات إلى ناقلات للأساطيل الخفيفة وأطلق 122 ناقلة مرافِقة. في المقابل، نجح اليابانيون في بناء أو نقل ست ناقلات للأساطيل فقط خلال الحرب، وقد انضمّت في معظمها إلى الأسطول في وقت متأخر وفشلت في تغيير النتيجة في نهاية المطاف.

لكن لم تقتصر الجهود على بناء السفن الحربية. يذكر كينيدي أيضاً أن كل قوة بحرية كبرى نجحت في متابعة تشغيل عدد كبير من أحواض بناء السفن المحلية (حتى خلال الفترات المضطربة التي تحكمها المعاهدات في العشرينات والثلاثينات). كانت معظم العمليات تهدف إلى بناء سفن تجارية. سرعان ما أصبح الاحتفاظ بتلك الأحواض واليد العاملة الماهرة فيها خلال السنوات العجاف محور برامج بناء السفن المتوسّعة في زمن الحرب، ما أدى إلى تصنيع أكثر من 2700 سفينة من فئة "ليبرتي".



مدمّرة أميركية تقترب من حاملة طائرات أثناء هجوم مانيلا في الفيليبين خلال الحرب العالمية الثانية - 10 تشرين الثاني 1944



يتخذ تفسير كينيدي للحرب العالمية الثانية أهمية خاصة في هذا المجال بالذات، مع أنه يبقى مثيراً للاهتمام في مختلف جوانبه. لا تزال أصداء المعارك البحرية خلال تلك الحرب مستمرة حتى الآن لأن المعركة البحرية في العام 1945 تبدو قريبة من أحداث العام 2022 أكثر من كل ما فعله الزعيم الفرنسي السابق نابليون بونابرت، أو حتى الجنرال الأميركي السابق جورج باتون، لتحديث الحروب البرية. لا تزال حاملة الطائرات أهم سفينة على الإطلاق، وتبقى المدمرات والطرادات مرافِقة لها. كذلك، تملك الولايات المتحدة حتى الآن أقوى قوات بحرية، أو حتى أكبرها في العالم. ولا تزال مناطق الإبحار التي تنشط فيها البحرية الأميركية على حالها اليوم (المحيط الأطلسي، البحر الأبيض المتوسط، غرب المحيط الهادئ).

يتعلق الفرق المستجد بأماكن أحواض بناء السفن. تملك الصين أصلاً أكبر أسطول بحري في العالم، ولديها كمية هائلة من السفن السطحية التي تزداد تقدّماً مع مرور الوقت. حتى إنها تعمل على تنفيذ برنامج ضخم لبناء السفن المدنية. في الوقت نفسه، يُبنى حوالى 90% من السفن التجارية العالمية في الصين واليابان وكوريا الجنوبية. في المقابل، تغيب الولايات المتحدة وأوروبا عن هذا القطاع.

اعتُبِر كينيدي من مؤيدي نظرية التراجع الأميركي بعد نشر أعماله المؤثرة في الثمانينات، ولا يمكن لومه للسبب نفسه في كتابه الأخير. مع ذلك، قد يحمل كل من يقرأ كتاب Victory at Sea رأياً مشابهاً عند مقارنة آفاق الأمن البحري بين الأمس واليوم. في فترة الثلاثينات، عمدت قوات الحلفاء إلى تعديل سقف الدفاع الذي فرضته الدول على نفسها لأكثر من عشر سنوات تمهيداً لبناء السفن، ولو في مرحلة متأخرة. اليوم، يتكلم المسؤولون في البحرية الأميركية عن توسيع نطاق هذه القوات تزامناً مع انكماش حجمها. تنذر الميزانية الأخيرة بتراجع محتوى الأسطول من 297 سفينة إلى 280 بحلول العام 2027. كذلك، بدأ عدد بناة السفن يتراجع في أنحاء الولايات المتحدة، وثمة نقص في قدرات أحواض بناء السفن، وتقبع السفن في أحواض جافة طوال سنوات قبل إصلاحها.

وصل جيل جديد من قدامى المحاربين إلى الكونغرس. لكن اكتسب جزء كبير منهم خبرته من الحروب البرية في العراق وأفغانستان، ويتراجع عدد من يحملون خبرة واسعة في المعارك البحرية. هذا الوضع يتعارض بكل وضوح مع ظروف الحرب العالمية الثانية، فقد كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل متمرسَين في الحروب البحرية. أشرف هذان الزعيمان على الشؤون البحرية في تجاربهما السابقة (كان روزفلت مساعد وزير البحرية، وكان تشرشل اللورد الأول للأميرالية)، وفضّلا الاتكال على السفن في حملاتهما. كذلك، كان تشرشل يُوقّع على مراسلاته الحربية مع الرئيس بعبارة "مسؤول بحري سابق".

تكثر الحروب البحرية التي شهدها التاريخ، لا سيما خلال الحرب العالمية الثانية. ويطرح كتاب كينيدي وجهة نظر أعمق حول دور سلاح البحرية في كبح قوة اليابان وإيطاليا وألمانيا النازية، فضلاً عن مساهمته في إنشاء عالمٍ قابل للاستمرار.


MISS 3