لين أودونيل

حكّام أفغانستان الجدد يسرقون الماضي

"طالبان" تستهدف التراث البوذي

15 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أحد تماثيل بوذا قبل تدميره عام ١٩٦٣ (اليسار) وبعد تدميره عام ٢٠٠٨ (اليمين)
عمدت حركة "طالبان"، فور وصولها إلى السلطة في أفغانستان في شهر آب الماضي، إلى تجديد اعتداءاتها ضد التراث الغني الذي يسبق العصر الإسلامي في البلد، فراحت تنهب الكنوز الأثرية في مقاطعة "باميان"، في مرتفعات أفغانستان الوسطى. استهدف عناصر "طالبان" تماثيل بوذا العملاقة التي أصبحت رمزاً دولياً لانعدام أخلاق الحركة عند وصولها للمرة الأولى إلى السلطة منذ عقدَين، فقد اعتبرت تلك التماثيل التي تعود إلى 1400 سنة "وثنية" قبل الإقدام على تفجيرها.

كان المُلا عبد الله سرهادي، الذي أصبح الآن حاكم "طالبان" الفعلي في مقاطعة "باميان"، واحداً من مرتكبي أفظع الجرائم الثقافية في التاريخ. منذ عودة "طالبان"، أشرف هذا الرجل على نهب آثار بوذية حُفِظت لوقتٍ طويل، وفق معلومات علماء آثار وخبراء مطّلعين على هذه النشاطات التدميرية. هو متورط أيضاً في ذبح أعضاء جماعة الهزارة، التي تعتبر مقاطعة "باميان" أرضها، منذ آخر عهد لحركة "طالبان"، بين العامين 1996 و2001.

يقول علي فولادواند، ناشط في جماعة الهزارة يقيم اليوم في المنفى وكان قد أطلق حملة عالمية عبر هاشتاغ "أنقذوا تراث باميان التاريخي" على تويتر: "بدأت عمليات النهب والتدمير وبناء بعض المباني التجارية الجديدة في مواقع التراث الثقافي بعد أيام على وصول "طالبان" إلى كابول، في 15 آب من السنة الماضية. نحن نطالب اليونسكو ومنظمات أخرى وأي بلد يهتم فعلاً بحماية المواقع التراثية العالمية بالضغط على "طالبان" بأي طريقة ممكنة لإنقاذ التراث الثقافي في "باميان". في الحد الأدنى، يجب أن يمنع العالم استمرار عمليات التدمير".

لا تكتفي "طالبان" بتفجير تماثيل بوذا وسرقة الكهوف، بل يهاجم عناصرها أقلية الهزارة أيضاً. تشكّل هذه الجماعة الشيعية حوالى 10% من الشعب الأفغاني الذي يضمّ 38 مليون نسمة، وهي تعتبر نفسها حامية التراث في المنطقة.

قُتِـــــــل آلاف الأشخاص من جماعة الهـزارة في مقاطعة "باميـــان" ومناطق أخرى بعد استيلاء "طالبان" على السلطة غداة الحرب الأهلية في العام 1996، ويقول الكثيرون إن "الإبادة الجماعية" التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، خلال عهد الملك عبد الرحمن خان، لا تزال مستمرة. كان فولادواند يدرس الطب حتى شهر آب الماضي لكنه يقيم راهناً في المنفى. هو يعتبر تدمير التراث في "باميان" جزءاً من سياسة "التطهير الثقافي" التي تطبّقها "طالبان" ضد أقلية الهزارة لأنها تعتبرها مرتدّة. في السنوات الأخيرة، قُتل أعضاء هذه الجماعة في منازلهم وفي المدارس والمساجد، مع أن "تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان" (فرع "داعش" المحلي وخصم "طالبان" الإرهابي) أعلن مسؤوليته عن عدد متزايد من تلك الأعمال الوحشية منذ عودة "طالبان" إلى السلطة.

يضيف فولادواند: "تدمير التراث يمنح "طالبان" القدرة على رفض جماعة الهزارة وتجريدها من أهميتها ومحوها من ذاكرة الأجيال المستقبلية".

بعد عودة "طالبان" إلى السلطة، بدأت الحركة تدمّر المواقع التاريخية وتسرقها. يقول السكان المحليون إن سرهادي استعان بأشخاص غير أفغان لحفر المواقع ونهبها. كذلك، ذكرت صحيفة Art Newspaper أن عمليات الحفر استهدفت موقعَين على الأقل في محيط تماثيل بوذا العملاقة، بما في ذلك كهوف لم يتم استكشافها من قبل. يستحيل أن يعرف أحد محتواها أو القطع التي سُرِقت منها. رفض المتحدث باسم "طالبان" التعليق على الموضوع، مع أن مصادر أخرى ذكرت أن مسؤولين من الحركة في كابول أمروا سرهادي بوقف عمليات الحفر أحادية الجانب.

يبدو أن عناصر "طالبان" يعودون إلى مسرح الجريمة بكل بساطة. قال مسؤول سابق في اليونسكو (رفض الإفصاح عن هويته حفاظاً على سلامة عائلته التي لا تزال تقيم في أفغانستان) إن شخصيات من "طالبان"، كانت متورطة في تدمير تماثيل بوذا التي تُعرَف باسم "صلصال" و"شمامة" في العام 2001، نهبت آثاراً كثيرة أخرى حين كان خبراء خارجيون في الهدم يستعدون لتدمير تماثيل بوذا. يضيف المسؤول نفسه: "لقد نهبوا عدداً كبيراً من الكنوز والقطع الأثرية من "باميان" وباعوها في السوق السوداء، وعاد سرهادي الآن لإتمام مهمته. سبق وبدؤوا في حفر مناطق محددة في محيط المواقع التاريخية في "باميان".

ذكرت مصادر عدة أن سرهادي يبحث عن كنوز مشابهة لمجوهرات ذهبية باهظة تم اكتشافها في ست مقابر للبدو في شمال أفغانستان، في أواخر السبعينات. كانت تلك المجوهرات تُعرَف باسم "كنز آسيا الوسطى القديمة"، وهي تعود إلى ألفَي سنة وتشمل تاجاً مطوياً من الذهب المطروق بحجم 5 إنش، فضلاً عن خناجر مرصّعة بالجواهر، وتماثيل "كيوبيد"، ودلافين، وأغنام، وتنين، وآلهة أخرى. يؤكد تنوع تلك القطع على الروابط التجارية التي امتدت على أكثر من 5 آلاف ميل من البحر الأبيض المتوسط إلى الصين، بين العام 2200 قبل الميلاد وسنة 200 بعد الميلاد.

حين اجتاحـــت جحافـــــل "طالبان" المنطقة للمرة الأولى، حرص مدير المتحف الوطني الأفغاني، عمارة خان المسعودي، على حماية تلك الكنوز حتى العام 2004. ثم جال جزء من المجموعة على متاحف كثيرة حول العالم. يقال إنها عادت ووصلت إلى القصر الرئاسي في كابول، لكنّ أحداً لا يعرف مكان وجودها في الوقت الراهن، وتقول حركة "طالبان" إنها تتابع البحث عنها.

صنّفت منظمة اليونسكو وادي "باميان" كموقع تراثي مُهدّد ومهم للبشرية ككل. وبعد عودة "طالبان" إلى السلطة في 15 آب الماضي، دعت اليونسكو إلى حماية المنطقة من الأضرار وعمليات النهب، لكن يصعب أن تُحدد المنظمة ما تستطيع فعله لمراقبة أهم الآثار في أفغانستان إذا بقي وجودها الميداني محدوداً. كما أن وعود "طالبان" في هذا المجال لا تقنع الكثيرين.

تقول شيريل بينارد، رئيسة "التحالف من أجل استعادة التراث الثقافي" في الولايات المتحدة: "أشعر بالقلق لأن "طالبان" أطلقت مواقف واعدة بشأن مسائل أخرى مثل تعليم الفتيات وملابس النساء. أصدر قادة الحركة بيانات مرنة ومتسامحة جداً في البداية، لكنهم عادوا إلى أساليبهم القديمة منذ ذلك الحين لأنهم اكتسبوا ثقة متزايدة بأنفسهم أو ربما بدأ المتشددون يفرضون سيطرتهم داخل الحركة. أخشى أن يتكرر الوضع نفسه مع التراث الثقافي".

حُفِر تمثالا "صلصال" و"شمامة" في واجهة الجرف، خارج عاصمة المقاطعة الهادئة مباشرةً، وتُعرَف هذه المنطقة أيضاً باسم "باميان". هما يقعان في وسط شبكة واسعة من الكهوف التي شكّلت مجموعة أديرة وكنائس فيها جداريات مطليّة مدهشة. وعلى مسافة قريبة خارج المدينة، ثمة بقايا من موقع "شهر غولغولا" الذي شكّل في الماضي محطة أساسية للقوافل التي تمر على "طريق الحرير" من الهند إلى الصين، بين القرنين السادس والعاشر. إنه مثال بارز على فنون "غاندهاران" خلال الألفية الأولى، وهو يعكس برأي اليونسكو حجم "التداخل بين التأثيرات الهندية، والهلنستية، والرومانية، والساسانية، والإسلامية".

تشهد بقايا التراث البوذي في أنحاء البلد على أهمية أفغانستان الجغرافية لنشر البوذية من الهند إلى الصين واليابان وكوريا. خارج كابول مباشرةً، تقع مدينة "مس عينك" البوذية التي نشأت منذ ألفَي سنة تقريباً، وقد بُنِيت فوق رواسب هائلة من النحاس واستفاد منها الرهبان طوال قرون بعد اكتشافها وهم في طريقهم من شبه القارة الهندية إلى الشرق الأقصى.

في أماكن أخرى، اجتاح عناصر "طالبان" موقع "مئذنة جام" في مقاطعة "غور" (إنه جزء من مواقع التراث العالمي وفق تصنيف اليونسكو أيضاً)، في أيار 2019، فمنعوا حينها الوصول إلى الموقع وقتلوا أكثر من 12 حارساً.

كشفت مصادر في أوساط علماء الآثار أن حركة "طالبان" تعتبر المواقع الثقافية مصدراً محتملاً للوظائف في بلدٍ توقفت فيه النشاطات الاقتصادية ويفتقر نصف الشعب إلى الغذاء. لكن يقول خبير أوروبي رفض الإفصاح عن هويته: "لا يعرف عناصر "طالبان" حقيقة ما يفعلونه، ولا يدركون أهمية هذه المواقع، ويظنون أن كل ما يحفرونه له قيمة مادية. لهذا السبب، يجب أن يراقبهم أشخاص محترفون، لكن لا أحد يعرف مدى استعدادهم لتقبّل هذه الخطوة".

من المعروف أن "طالبان" لا تهتم إلا بتفسيراتها الصارمة للشريعة الإسلامية، ويُعتبر هدم تماثيل بوذا في "باميان" من أسوأ مظاهر التدمير الثقافي، وهو يكشف الوحشية التي طبعت أول خمس سنوات من حُكم هذه الحركة، علماً أن عهدها انتهى بعد ثمانية أشهر حين أقدمت الولايات المتحدة على غزو البلد رداً على تورطها في هجوم 11 أيلول الإرهابي الذي استهدف نيويورك وواشنطن.

بالعودة إلى مقاطعة "باميان" التي شملت تمثالَي "صلصال" و"شمامة" في الماضي، يمكن رصد صخرتَين مغمورتَين على واجهة الجرف. على مر العقدَين اللذين تليا تدميرهما، سعى الخبراء الأفغان والدوليون إلى حماية مواقع "غاندهاران" والأماكن البوذية في "باميان". أنفقت منظمة اليونسكو واليابان وكوريا الجنوبية ملايين الدولارات في محاولةٍ عقيمة لحماية كنوز تلك المنطقة. لكن لم تستطع هذه الجهات أن تبذل أي جهود مماثلة في الكهوف التي تعرّضت للتشويه أو التدمير، فاندثرت بذلك جداريات تاريخية بشكلٍ نهائي. يشمل بعض الكهوف اليوم سكاناً فقراء من المقاطعة نفسها، فيستعملون البطاريات لتشغيل المصابيح والمواقد. حتى أن بعضها تحوّل إلى مدارس لأولاد سكان الكهوف، ويحتل مدمنون على المخدرات عدداً آخر منها.

تعرّضت هذه المنطقة للحفر والنهب طوال آلاف السنين، ويظن عدد كبير من الخبراء أنها لم تعد تشمل أي كنوز قيّمة. على غرار المنافذ الفارغة التي شُيّدت عليها تماثيل بوذا في الماضي كي تُطِلّ على حقول القمح في "باميان"، قد تصبح معظم معالم التراث الثقافي في أفغانستان مجرّد ذكرى غابرة قريباً.


MISS 3