هند مطر

زيارة ماضي "وسط بيروت" للتصالح مع الحاضر

16 حزيران 2022

02 : 00

زوّار المعرض ورحلة الذكريات

بعد انفجار الرابع من آب من تلك السنة المصيريّة، توجّه مُخرج الشرائط الوثائقيّة الذي يُعيد إحياء التاريخ من خلال أعمال لا تتحسّر على الماضي بل تُلقي التحيّة لثنيات ثوبه، هادي زكاك، إلى وسط العاصمة الجريحة ليلتقط الصور. وتساءل "كم مرّة وأنا على قيد الحياة سألتقط الصور للأماكن عينها وهي تُدمّر؟ وأعتقد أن أكثر ما صدمني، وقوفي أمام مبنى سينما (أوبرا) في ساحة البرج وكنت قد شاهدتُ الدمار عينه عندما التقطتُ صورة للمشهد في تسعينات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب (الأهليّة). وقلتُ لنفسي: ما هذا المصير الذي يُلاحقنا؟ يتم محو كل شيء من حولنا بشكل مُستمر". وبطبيعة الحال، فإن مجمل أعمال هذا السينمائي والأستاذ في معهد السينما التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت ترتكز على الذاكرة، وعدم النسيان، "ويبقى التحدي الذي نعيشه جميعاً هو التالي: نحن، بالنهاية، شو فينا نعمل؟ أقلّه فلنُحافظ على هذه الذاكرة".



الفنادق البيروتية تروي قصة العاصمة




في إطار الدورة الـ11 لأيام بيروت السينمائيّة التي تُنظّمها جمعيّة بيروت دي سي، نحن مدعوون إلى رحلة في أروقة الذاكرة ضمن معرض، "في هذا المكان: شرائط لوسط بيروت" المُستمر في مركز مينا للصورة حتى 20 تموز، ويأخذنا من خلاله هادي زكاك في نُزهة (داخليّة؟) من المرفأ إلى الفنادق التي أضافت الرونق والسحر إلى المنطقة مروراً بالوسط التجاري الشاهد على تقلّبات وانقلابات، من خلال خمسة أفلام قصيرة مؤلفة من مشاهد مأخوذة من خمسين فيلماً روائياً طويلاً لبنانياً وعربياً وغربياً أنتجت بين عامي 1935 و1975. وها نحن نُعيد إكتشاف تلك العاصمة التي كُتب لها أن تُلملم جراحها مراراً وتكراراً، ونضحك فرحاً بفعل الحياة المُنبثقة من حناياها والتي حوّلتها عاشقة غير قابلة للترويض. ويضم المعرض عشرات الصور للعاصمة مأخوذة من مجموعة المؤسسة العربية للصورة ومُلصقات الأفلام القديمة المأخوذة من مجموعة الهاوي الكبير عبودي أبو جودة.

يروي لنا زكاك بأسلوبه المُتمهّل والمُتعمّد، "إرتكز عملي على هذه المنطقة على اعتبار أنها المكان المُصغّر عن بيروت وهي الشاهدة على كل تحولاتها. فعندما نتوجّه من المرفأ نحو الفنادق وأعني وصولاً لمسبح السان جورج وحتى الهوليداي إن، نكتشف أن هذه المنطقة بالتحديد كانت رمزاً لكل بيروت. كانت الرمز لكل ما يُجسّده الفرح وكل ما ندعوه اليوم بالماضي الجميل. وتبقى الرمز لكل التحولات خلال فترة الحرب. حتى أنها عاشت الحرب مرة جديدة في الرابع من آب. هي المنطقة التي تعيش التحولات الجذريّة كل 15 عاماً. واليوم يُحكى عن موسم إصطياف رائع سنشهده. فمن الطبيعي أن نتواصل مع ذاكرتنا وأن نتواصل مع الأماكن لدى زيارتنا لها. بمعنى أننا لا نزورها بحاضرها فحسب، ولكننا نزور ماضيها في الوقت عينه". وعندما اعتمد مهرجان أيام بيروت السينمائية وبيروت دي سي "هذا المكان" كعنوان عريض كانت مسألة طبيعيّة، "أن أختار الوسط التجاري لأنه المنطقة التي تعيش فعلياً التحولات الجذريّة باستمرار". كما اختار زكاك الوسط التجاري لمعرضه، "على اعتبار أنه لم يُصوّر كثيراً في الأفلام المحليّة. نُلاحظ أن الأفلام المحليّة لم تُسلّط الضوء كثيراً على البلد، نظراً للزحمة الخانقة فيه التي كانت تقف عائقاً أمام التصوير من جهة، ولأن البعض لم يشأ تصوير هذه الأحياء الشعبيّة التي تُميّزه. جرت العادة على تصوير البحر والجبل كبطاقة بريديّة مُعتمدة باستمرار. في حين أن المُخرج الأجنبي يذهب في الدرجة الأولى إلى أسواق الخضار ليُسلّط الضوء عليها وعلى عجقتها ومشاهدها. وأحياناً، يُمكن أن يكون للأجنبي نظرة إستشراقيّة، بحيث لا تعجبه المدينة في صورتها الحقيقية كثيراً، فإذا به يضيف عليها لمسات لتقترب أكثر من الشرق الذي يعيش في رأسه".



الأفلام المركّبة في مخيّلة زكاك



الأفلام الـ50 التي عمل عليها زكاك صوّرت في هذه المنطقة، "واخترت الأفلام اللبنانيّة والسورية والمصرية والتركيّة، وصولاً إلى أحد الأفلام الهنديّة، والأفلام الأميركيّة والإيطاليّة والبريطانيّة والفرنسيّة والإسبانيّة".

وسلّط الضوء في أحد الأفلام التي ركّبها من أفلام سابقة، على المرحلة التي اعتبرت فيها العاصمة مركزاً للتجسّس، "لا سيما بعد قضية العميل البريطاني السوفياتي المزدوج كيم فيلبي الذي فر من فندق السان جورج إلى موسكو، وكان السبب في فتح العيون على بيروت من زاوية أخرى. فجأة صارت العاصمة مدينة جايمس بونديّة بامتياز". وركّب زكاك الأفلام القصيرة الـ5 بأسلوب مُتكامل يجعل الفيلم الواحد يبدو وكأنه أشبه بالفيلم الطويل وإن لم تتعد مدته الـ20 دقيقة.

واختار العناوين التالية للأفلام التي عمل عليها بمفرده طوال عام كامل، "أهلاً بكم في بيروت"، "مرفأ بيروت"، "البلد"، "أوتيل بيروت" و"كباريه بيروت".

يعلّق زكاك، "عملت على تركيب الأفلام بمفردي لأنها رحلة ذاتيّة، وتتطلّب معرفة عميقة بالأفلام بحيث تُصبح مسألة ترتيب المشاهد سهلة... وكيف يُمكن أن تُجيب صباح على سبيل المثال الممثل الأجنبي الذي اخترت أحد المشاهد له؟".

من خلال هذه الرحلة يُمكننا القول إن زكاك تصالح مع الحاضر، "إكتشفتُ فعلياً أن المشاكل لطالما لاحقت البلد وطوّقته. يُمكن أن يتفاوت حجمها ولكن واقع البلد هو نفسه. حتى أن مقولة: ذاك الزمن الجميل وهذا الزمن السيئ التي نتمسّك بها ليست حقيقيّة. وكأننا فجأة أصبنا بلعنة. هذا الإعتقاد غير صحيح. اللعنة يُمكن أن تُصبح أقل حدّة أو أكثر قوّة في مرحلة أو في أخرى ولكنها لطالما كانت حاضرة".